في ظل الشورى
المجتمعات الديمقراطية تمارس الديمقراطية كصبغة عامة لحياتها، في الأسرة والمدرسة والمصنع والمؤسسة الدينية والنشاط الاجتماعي، وانتهاءً بمجال السلطة والحكم، بينما تسود الفردية والديكتاتورية مجتمعات الاستبداد، على كافة الأصعدة.
من هنا تجد التناغم واضحاً بين شكل الحكم السياسي، وطبيعة الحالة الاجتماعية، وكما ورد في الأثر: "كما تكونوا يولى عليكم".
ومجتمعاتنا الإسلامية الطامحة للديمقراطية ضمن ضوابط الإسلام، عليها أن تعود لاستيعاب مبدأ الشورى، ومعرفة جذوره الفكرية، وتطبيقاته الاجتماعية، ونماذج ممارسته في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ليشكل ذلك خلفية فكرية ثقافية تأخذ موقعيتها في أذهان أبناء الجيل، الذين بهرتهم ديمقراطية الغرب، وعاشوا ضمن أجواء بعيدة عن نهج الشورى والحرية. حتى التبس عليهم الأمر بين رؤية الإسلام وواقع المسلمين.
إن الطريقة المتبعة في مجتمعاتنا لإدارة الشؤون الدينية والاجتماعية لا تزال قائمة على الرأي الفردي، والإرادة الآحادية، فلماذا لا يسعى الواعون المصلحون لتطويرها، حتى تأخذ بنهج الشورى، والاستفادة من أكبر قدر ممكن من الآراء والطاقات.
وفي هذا السياق ينبغي للناس أن يتفاعلوا مع المؤسسات الأهلية ـ الرسمية، بحضور جمعياتها العمومية، والترشيح والانتخاب للتصدي لشؤون الإدارة. مثل الجمعيات الخيرية، والتي تنتخب الجمعية العمومية فيها أعضاء مجلس الإدارة، ثم ينتخب المجلس رئيسه من بين الأعضاء. وهناك نظام للمتابعة والمساءلة.
وكذلك الحال بالنسبة لغرف التجارة والصناعة في مناطق البلاد والتي يتم فيها الاقتراع لانتخاب مجلس الإدارة واختيار الرئيس.
والقرار الذي صدر أخيراً من مجلس الوزراء الموقر باعتماد نظام الانتخاب الجزئي للمجالس البلدية، يوفر فرصة أخرى لممارسة هذا النهج، ونأمل أن تتسع رقعته ليستجيب لتطلعات المواطنين في إنجاز الإصلاحات الشاملة إن شاء الله.
كما أطلقت وزارة التربية والتعليم مشروعاً رائداً قالت إنها ستبدأ في تنفيذه مطلع العام الدراسي الجديد 2003 ـ 2004م، بتكوين مجالس الشورى للطلاب في سبعين مدرسة مختلفة المستويات التعليمية، كتجربة أولية، وسيتضاعف العدد في الفصل الدراسي الثاني ليصل إلى 140 مدرسة، بحيث يمثل كل فصل في المدرسة طالب واحد، اضافة إلى مدير معه أربعة تربويين، ويعقد المجلس حلقات نقاش وحوارا مع الطلاب، بشكل شهري، ليرفع تقاريره وتوصياته إلى مدير المدرسة، والذي عليه أن يدرسها مع الهيئة الإشرافية بالمدرسة، من أجل تطبيق التوصيات ومتابعة تنفيذها.
في ظل الشورى والديمقراطية، يشعر الناس بكرامتهم، واحترام إرادتهم ورأيهم، فتبدع العقول، وتتطور الأفكار، وتظهر الكفاءات والمواهب، وتتوفر فرصة التعبير عن الرأي. ويتحمل المجتمع مسؤولية القرارات التي تتخذ لإسهامه في صنعها.
وعلى العكس من ذلك تماماً حالة الفردية والاستبداد، لذلك تسود المجتمعات الديمقراطية حياة الاستقرار، وينمو معدل تقدمها في مختلف المجالات، بينما تعاني المجتمعات الأخرى من الاضطرابات والمشاكل، وتراوح مكانها في قاع التخلف والانحدار.
ان المجتمع إذا امتلك صفات من بينها الشورى فهو جدير بالحياة على ظهر الأرض، وإلا فهو مجتمع ميت مكانه بطن الأرض. روى الترمذي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله >: "إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاؤكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها...".
وكنموذج للفارق بين مجتمع الشورى ومجتمع الاستبداد ينقل الدكتور أحمد شوقي الفنجري (في كتابه الحرية السياسية في الإسلام) هاتين القصتين:
أثناء الفتح الإسلامي لأرض فارس طلب قائد الفرس أن يلتقي بالقائد العربي قبل المعركة، ليتفاوض معه في حقن الدماء، وبعد أن عرض الفارسي مقالته قال العربي: "أمهلني حتى استشير القوم". فدهش الفارسي وقال: ألست أمير الجند؟ قال: نعم.
قال الفارسي: إننا لا نؤمر علينا من يشاور.
قال له العربي: ولهذا فنحن نهزمكم دائماً، أما نحن فلا نؤمر علينا من لا يشاور.
وهكذا انتصر المتواضع الذي يشاور على المغرور الذي يستبد برأيه. ومرت السنوات على هذا الحادث، أربعة عشر قرناً من الزمان، ثم جاءت الصهيونية تغزو قلب العالم الإسلامي، وهزمت العرب في ثلاثة حروب متتالية. وتتكرر القصة مرة أخرى، فيقول وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان عن حرب 1967م في مذكراته: إنه كان يتعجب من أمر الجيوش العربية، فبعض الوحدات كانت تقاتل بشراسة ورجولة حتى آخر رمق وآخر طلقة، وبعض الوحدات في نفس الجيش كانت تستسلم دون طلقة واحدة، ولم يعرف السر في ذلك، إلى أن استسلم أحد القادة العرب ومعه جنوده وجميع أسلحته، فأخذ يسأله: "هل أخذت رأي زملائك الضباط والجنود قبل أن تأمرهم بالاستسلام لنا؟" فقال في كبرياء: إننا لا نستشير من هم دوننا في الرتبة.
فقال له لهذا السبب فنحن نهزمكم دائماً.