الشورى على صعيد الفرد والمجتمع
ينطلق نهج الشورى في الاسلام من مبدأين أساسيين:
المبدأ الأول: احترام الارادة الشعبية، والاعتراف بسلطة الناس على أنفسهم واموالهم وحقوقهم.
وقد عد كثير من الفقهاء قاعدة التسلط، (ان الناس مسلطون على انفسهم واموالهم وحقوقهم)، ضمن سلسلة القواعد الفقهية، التي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط الاحكام الشرعية في المجالات المختلفة وكل العلماء يأخذون بمفاد هذه القاعدة.
وبمقتضى هذا المبدأ الشرعي العقلي فان التصرف فيما يرتبط بشؤون الناس، يجب ان يكون بإرادتهم ورضاهم. والا كان تعديا على حقوقهم والغاء لسيادتهم على انفسهم واموالهم.
المبدأ الثاني: الحرص على اكتشاف الرأي الأفضل والأصوب، وذلك يستلزم استنهاض مختلف العقول، وحشد امكانياتها وطاقاتها، فتنبثق الآراء، وتظهر نقاط قوة وضعف كل رأي، ثم تتلاقح وتتكامل، لتصل إلى افضل ما يمكن من نضج وصواب.
وفي اللغة العربية نجد ان الشورى والمشاورة والمشورة: مصادر للفعل شاور. تقول: شاورته في الأمر اي طلبت رأيه واستخرجت ما عنده واظهرته.
وشار العسل: اذا استخرجه.
وشار الدابة: استخرج اخلاقها.
والشارة والشورة: الهيئة والمظهر الحسن. قال ابن الأثير: هي بالضم، الجمال والحسن كأنه من الشور عرض الشيء واظهاره.
وشرت الدابة شورا: عرضتها على البيع اقبلت بها وأدبرت.
وركب فرسا يشوره أي يعرضه.
ويقال شرت الدابة اذا اجريتها لتعرف قوتها.
فأصل المشاورة اذا الاستخراج والاظهار والعرض.
وهذه هي الوظيفة التي تؤديها الشورى بمعناها الاصطلاحي، انها استخراج الرأي واستظهاره واستعراضه.
وتشير الاحاديث والروايات إلى دور الشورى في انضاج الرأي والوصول به الى مستوى الرشد والصواب.
يقول الامام علي بن ابي طالب : «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ».
حينما يواجه الانسان مشكلة، أو يريد اتخاذ قرار في قضية تهمه، فان عليه أولا ان يرجع الى عقله ويجتهد في التفكير الموضوعي ثم من الافضل له ان يستفيد من آراء الاخرين، باستشارتهم، فقد يلفتونه إلى فكرة لم ترد على ذهنه، وقد ينبهونه الى ثغرة لم يكن منتبها لها وقد يضيفون الى رأيه ما يكمله.
قال: بعض من حضر كنا عند علي الرضا فذكرنا اباه موسى الكاظم. فقال: كان عقله لا توازى به العقول، وربما شاور الاسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: ان الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه. قال فكانوا ربما أشاروا عليه بالشيء فعمل به.
ومهما كان مستوى عقل الانسان وادراكه فان الاستشارة تضيف له كسبا ونفعا. وقد يتحمس الانسان لرأي معين بدافع غير موضوعي، لرغبة او رهبة، لكن من يستشيرهم يكون رأيهم خارج هذه المعادلة وأقرب الى الموضوعية.
ونلمح في التوجيهات الاسلامية، انها تهدف إلى تربية الإنسان المسلم على نهج الشورى، والاستفادة من الرأي الآخر. حتى يصبح ذلك سلوكا وعادة للأفراد وظاهرة عامة في الحياة الاجتماعية.
ان توجيهات الشارع الحكيم ، تشجع الإنسان على استطلاع آراء الاخرين والاستفادة منها، فيما يرتبط بشؤونه الشخصية فان أوامر الدين صريحة وواضحة في النهي عن التفرد بالرأي والاستبداد بالقرار، فيما يرتبط بالشأن العام.
لان الشؤون العامة تمس حياة الناس ومصالحهم فلا يصح تجاوز ارادتهم ولا تجاهل رأيهم.
وقد أمر الله تعالى نبيه محمدا بالمشاورة، مع انه الاكمل عقلا، والافضل رأيا، وهو مسدد بالوحي من قبل الله تعالى، وكان المسلمون ينظرون اليه ليس كقائد فقط، وانما هو نبي رسول يخضعون له من اعماق نفوسهم ولا يجدون في انفسهم حرجا من طاعته والتسليم له.
مع كل ذلك يأمره الله تعالى بالتزام نهج الشورى، ليرسي هذا النهج ويركزه، وليكون قدوة لاي قائد او حاكم بعده. يقول تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله﴾. والسيرة النبوية حافلة بالموارد والمواقف التي استشار النبي فيها اصحابه، في قضايا الحرب وشؤون السلم ففي غزوة بدر، شاورهم اولا في الخروج لعير قريش ابتداء، ثم شاورهم ثانيا عندما خرجت قريش لتدافع عن عيرها، وشاورهم في موقع النزول يوم بدر، واخيرا شاورهم في اسرى بدر.
وفي غزوة أحد، شاور اصحابه، عندما بلغه خبر خروج قريش للقتال، وكان رأيه البقاء والتحصن في المدينة، لكنه استجاب لرأي الأغلبية بالخروج.
وفي غزوة الخندق، استشارهم في اسلوب التحصن بالمدينة فاشار سلمان الفارسي بحفر الخندق واخذ الرسول برأيه. ثم استشار الانصار في مصالحة الاحزاب باعطائهم ثلث ثمار المدينة ان هم فكوا الحصار عنها ورجعوا، فلم يقبل ذلك الانصار واستجاب الرسول لرأيهم.