نهج المساواة 2
تشكل سيرة الإمام علي في الحكم، على قصر عمرها الزمني، أروع أنموذج تطبيقي لشرعة المساواة في الإسلام، بعد رسول الله .
فقد تسنم الإمام علي عرش الخلافة والحكم بمبايعة جماهيرية شاملة، بعد فترة من الفتن والاضطرابات أدت إلى مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وقد ظهرت في المجتمع الإسلامي حالات وأوضاع جديدة، بسبب اتساع رقعة الفتح الإسلامي، ودخول مجتمعات أخرى إلى إطار الدولة الإسلامية، وتعاظم ثروات بيت المال، والسياسات التي اتبعت في توزيع الموارد المالية، وبروز طموحات سياسية ومصلحية جامحة.
لقد أعلن الإمام علي منذ اليوم الأول لخلافته، التزامه بنهج المساواة بين أبناء الأمة، ومواطني الدولة الإسلامية، وأكد ذلك بسياساته العملية ومواقفه وتصريحاته الكثيرة. ككتابه لمالك الأشتر، حينما ولاه مصر، ذات التنوع الديني، لبقاء قسم من أهلها على المسيحية، ومن فقرات ذلك الكتاب قوله : «واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا، تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.»
موارد بيت المال من الزكاة والخراج والغنائم، كانت تصرف على مصالح الدولة الإسلامية، ويقسم الباقي على أبناء الأمة، وفي عهد رسول الله وعهد الخليفة الأول أبي بكر، ومقطع من عهد الخليفة الثاني عمر، كان العطاء يوزع بالتساوي بين المسلمين، وفي سنة عشرين للهجرة ابتكر الخليفة عمر تنظيمات جديدة لإدارة بيت المال، وارتأى أن يكون هناك نسق تفاضلي في العطاء، إبرازا للسوابق التاريخية الجهادية. جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد:
لما أجمع عمر بن الخطاب على تدوين الديوان، وذلك في المحرم سنة عشرين، بدأ ببني هاشم في الدعوة، ثم الأقرب فالأقرب برسول الله ... وفرض عمر لأهل الديوان ففضل أهل السوابق والمشاهد في الفرائض، وكان أبو بكر الصديق قد سوى بين الناس في القسم، فقيل لعمر في ذلك، فقال: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه... فبدأ بمن شهد بدرا من المهاجرين والأنصار، ففرض لكل رجل منهم خمسة آلاف درهم في كل سنة، حليفهم ومولاهم معهم على السواء، وفرض لمن كان له إسلام كإسلام أهل بدر من مهاجرة الحبشة، وممن شهد أحدا، أربعة آلاف درهم لكل رجل منهم، وفرض لأبناء البدريين ألفين ألفين إلا حسنا وحسينا، فإنه ألحقهما بفريضة أبيهما لقرابتهما من رسول الله ... وفرض لمن هاجر قبل الفتح لكل رجل ثلاثة آلاف درهم، وفرض لمسلمة الفتح لكل رجل منهم ألفين، وفرض لغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمة الفتح... ثم فرض للناس على منازلهم وقراءتهم للقرآن وجهادهم، ثم جعل من بقي من الناس بابا واحدا، فألحق من جاءهم من المسلمين بالمدينة في خمسة وعشرين دينارا لكل رجل، وفرض للمحررين معهم، وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق لكل رجل ألفين، إلى ألف، إلى تسعمئة، إلى خمسمئة، إلى ثلاثمئة، لم ينقص أحدا من ثلاثمئة.
هذه السياسة أنتجت فيما بعد آثارا سلبية لاحظها الخليفة عمر، وعزم على التراجع عنها، لكن الأجل لم يمهله، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: والله لئن بقيت إلى هذا العام المقبل، لألحقن آخر الناس بأولهم، ولأجعلنهم رجلا واحدا. وفي نقل آخر: لئن بقيت إلى الحول لألحقن أسفل الناس بأعلاهم.
لذلك اهتم الإمام علي بمعالجة هذه المشكلة منذ اليوم الأول لخلافته، وجعلها على رأس أولوياته.
فاتخذ قراره الصارم بإلغاء سياسة التمييز في العطاء، وساوى بين الناس، من دون أي تفضيل أو تمييز.
طبعا لابد أن يغضب ذلك القوى والجهات المستفيدة من السياسة السابقة، لكنه واجه ذلك بحزم وبسالة، موطنا نفسه على تحمل المضاعفات الخطيرة، التي قد تنال من استقرار حكمه وسلطته. لاعتقاده بأن المساواة مبدأ لا يمكن المساومة عليه، ولا التنازل عنه، ولو كان ثمن ذلك اهتزاز عرش السلطة، لأن السلطة لديه لم تكن هدفا وغاية، بل وسيلة لتحقيق المبادئ والأهداف الإسلامية.
وشن الإمام حملة توعوية تثقيفية في أوساط جماهير الأمة لإيضاح نهجه وسياسته.
روى ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن شيخه أبي جعفر الإسكافي، أن عليا صعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة... فكان من خطبته:
وألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عارا وشنارا، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون، ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا.
ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النير غدا عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا وما عند الله خير للأبرار.
فقال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم، فقال: نعطيه كما نعطيك، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضل أحدا على أحد.
وفي الرد على دعوى استحقاق التمايز بسابقة الإسلام والجهاد، قال في إحدى خطبه:
«ويا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين... فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا، وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا، فمن لم يرض به فليتول كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله، والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه.»
وكان مما أسخط طلحة والزبير انتهاج علي لهذا النهج، وإلغاؤه امتيازهما في العطاء، وقد صارحاه بذلك، فأجابهما بحزم: وأما قولكما: جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا، سواء بيننا وبين غيرنا، فقديما سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم، فلم يفضلهم رسول الله في القسم، ولا آثرهم بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا.
وولى الإمام علي بيت مال المدينة عمار بن ياسر وأبا الهيثم بن التيهان، فكتب: العربي والقرشي والأنصاري والعجمي وكل من كان في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم سواء.
وجاء رهط من شيعة علي وأنصاره، مشفقين على حكم علي من معارضة مراكز القوى، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أخرجت هذه الأموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والأشراف، وفضلتهم علينا، حتى إذا استوثقت الأمور، عدت إلى أفضل ما عودك الله من القسم بالسوية، والعدل في الرعية!
فقال :« أتأمرونني ويحكم - أن أطلب النصر بالظلم والجور، فيمن وليت عليه من أهل الإسلام؟! لا والله لا يكون ذلك ما سمر السمير، وما رأيت في السماء نجما، والله لو كانت أموالهم مالي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم.»
وجاءته امرأتان فأعطاهما على حد سواء، فلما ولتا، سفرت إحداهما وقالت: يا أمير المؤمنين فضلني الله بما فضلك الله به وشرفك! قال: وبما فضلني الله وشرفني؟ قالت: برسول الله . قال: صدقت. وما أنت؟ قالت: أنا امرأة من العرب وهذه من الموالي. قال: فتناول شيئا من الأرض، ثم قال: قد قرأت ما بين اللوحين، فما رأيت لولد إسماعيل على ولد إسحق فضلا ولا جناح بعوضة.
واهتم الإمام علي بحفظ حقوق كل مواطن في دولته، مسلما كان أو غير مسلم، فإن غير المسلم شريك في الإنسانية والوطن، كما قال :« إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.»
لذلك نجد الإمام عليا يتألم لانتهاك حرمة المرأة غير المسلمة، كما يتألم للمرأة المسلمة، ويعتبر وقوع شيء من ذلك في بلاد المسلمين، من دون مقاومة أو ردع، يسلب الحياة قيمتها، ويكفي مبررا لاختيار الموت أسفا واعتراضا، يقول منددا بإحدى غارات جيوش معاوية:
«ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها، ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءا مسلما، مات من بعد هذا أسفا، ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.»
وذات مرة رأى الإمام علي شيخا كبيرا فاقد البصر، وهو يستجدي الناس، فهاله المنظر، والتفت قائلا: «ما هذا؟ » قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال : «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال».
وكتب في رسالة إلى عماله على الخراج، مؤكدا حرمة أموال وحقوق كل المواطنين مسلمين وغير مسلمين، يقول : «ولا تمسن مال أحد من الناس؛ مصل ولا معاهد».
ونجد ذروة الاحترام والمساواة أمام القانون، ما نقله ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" عن الشعبي قال: وجد علي درعا له عند نصراني، فأقبل به إلى شريح "القاضي" قائلا: «هذه درعي!» فقال النصراني: ما هي إلا درعي، ولم يكذب أميرالمؤمنين، فقال شريح لعلي: ألك بينة؟ قال: «لا»، وهو يضحك، فأخذ النصراني الدرع، ومشى يسيرا، ثم عاد، وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أميرالمؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، ثم أسلم، واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إلى صفين، ففرح علي بإسلامه، ووهب له الدرع وفرسا.
وحينما انشق قسم من الناس عن الإمام علي، بعد قضية التحكيم في صفين، وأعلنوا معارضتهم للإمام، ومخالفتهم لرأيه، بل رموه بالكفر، وهم الذين عرفوا بالخوارج، إلا أنه رفض المساس بحقوقهم المدنية، وممارسة أي تمييز ضدهم، لمجرد مخالفتهم في الرأي السياسي أو الديني، ما لم يقدموا على الإخلال بالأمن باستخدام السلاح والعنف.
والرائع في الأمر أن الإمام عليا يبادر للإعلان لهم عن حقوقهم أمام الملأ، جاء في دعائم الإسلام وتاريخ ابن خلدون أنه: خطب علي بالكوفة، فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا لله، فسكت علي، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا عليه قال: كلمة حق يراد بها باطل. لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به.
وبعد واقعة النهروان سمع بعض أصحاب الإمام شخصا يقال له أبا العيزار الطائي وهو يجهر برأي الخوارج، فجاءوا به للإمام علي، قائلين: إن هذا يرى رأي الخوارج، ونقلوا حديثه، فقال : «ما أصنع به ؟» قالوا: تقتله.
قال الإمام: «أقتل من لا يخرج علي؟»
قالوا: تحبسه.
قال: «وليست له جناية، أحبسه عليها خلو سبيل الرجل».
ما أحوج الأمة الإسلامية وهي تعيش في بعض مجتمعاتها مآسي فقدان المساواة، وفتن الخلافات القومية والطائفية، أن تقرأ سيرة الإمام علي، لتعرف سمو تعاليم الإسلام، وبراءته مما يمارس باسمه من ظلم وجور.
وما أحوجنا إلى قراءة علي في المساواة والعدل، وإبراز هذا النهج إعلاميا وثقافيا على المستوى العالمي، في مواجهة حملات التشويه، التي تستهدف الإسلام والمسلمين، وخصوصا منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، لإذكاء معركة الصدام الحضاري، بين الحضارة الغربية والإسلام، كما يخطط لها اللوبي الصهيوني واليمين المسيحي المتطرف، لتتمكن "إسرائيل" في ظل هذه المعركة المفتعلة، من مواصلة احتلالها لفلسطين وقمع انتفاضة شعبها الناهض، وتحقيق أطماعها العدوانية التوسعية.
http://www.alwasatnews.com/topic.asp?tID=59833