ثقافة السلم الاجتماعي وأخلاقياته
لماذا تنعم بعض الشعوب بالاستقرار والسلم الاجتماعي، وتتجه لبناء أوطانها وصنع تقدمها، بينما تعاني شعوب أخرى من أهوال الاحتراب الداخلي، ومرارة الفتن والصراعات، لتكرّس بذلك ضعفها وتخلفها، وسوء واقعها المعاش؟
هل يحصل ذلك اعتباطاً وبمحض الصدفة والاتفاق؟ أم أن هناك أسباباً وعوامل تلعب دورها في توجيه حركة أي مجتمع نحو السلم والتعاون أو النزاع والشقاق؟
بالطبع لا مجال للصدفة والعبث، في هذا الكون القائم على النظام والدقة، من قبل الخالق الحكيم، سواء على صعيد التكوين والخلق حيث يقول تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾[1] أو على مستوى الحركة الإنسانية الاجتماعية، إذ يقول تعالى: ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾[2] .
انموذجان متقابلان:
لو درسنا تجربة أي مجتمع مستقر منسجم في داخله، وأي مجتمع مضطرب متمزق، لوجدنا أن هناك صفات وسمات متقابلة بين هذين النوعين من المجتمعات، ففي النوع الأول تتوفر مقومات السلم والوئام، من سلطة مركزية، وعدالة حاكمة، واحترام لحقوق ومصالح القوى والفئات المختلفة، إضافة إلى العوامل المساعدة على حماية وضع السلم والاستقرار، والمضادة لأي محاولات لنسفه أو تخريبه. بينما في النوع الثاني من المجتمعات تنعدم أو تضعف تلك المقومات، ولا تتوفر الحصانة والمناعة ضد أخطار الفتن والصراعات، مما يعطي الفرصة لأي جرثومة أو ميكروب وبائي للتمكن من جسم المجتمع وانهاكه.
ولنتأمل الآن تجربتين حاضرتين في واقعنا المعاصر، تمثلان انموذجين متقابلين:
سنغافورة:
وهي دولة تتعدد فيها الأعراق حيث تتكون من أربع مجموعات عرقية، صينيون 75%، ماليزيون 15%،
هنود-باكستانيون 7%، أوربيون 2%. كما تتعدد فيها الديانات إلى ست ديانات هي: البوذية والطاوية والكونفوشية 54%، الإسلام 18%، المسيحية 13%، الهندوسية 4%. وتتعدد فيها أيضاً الأحزاب السياسية حيث تصل إلى عشرين حزباً مسجلاً رسمياً.
ومع هذه التعددية تعيش سنغافورة استقراراً داخلياً، ووئاماً وانسجاماً بين هذه الاعراق والديانات، وينشط الجميع في صنع تجربتهم الوطنية المتقدمة، وبناء واقعهم الاقتصادي المتطور. حيث يصل معدّل دخل الفرد من اجمالي الناتج الوطني إلى أكثر من 17,598 دولار وهو من أعلى المعدلات في آسيا، كما يتمتع شعبها بمستوى عال في مجال الخدمات الصحية والتعليمية والإسكان والمواصلات، وبمستوى مرتفع من المعيشة والرعاية الاجتماعية، ويقدر متوسط العمر التقريبي للمواطنين 75 سنة.
ويتميز اقتصاد سنغافورة بدرجة عالية من التطور والتنوع، فهي مركز مالي تجاري مهم، إضافة إلى استقطابها السياحي وانتاجها الصناعي مع قلة مواردها الطبيعية. ورغم محدودية أراضيها المخصصة للزراعة والتي تساوي 2% فقط إلا أن كثيراً من الفلاحين يستخدمون الطرق التقنية المتقدمة، مثل الزراعة المائية، وهي زراعة النباتات في محاليل كيميائية دون تربة، وذلك لزيادة الانتاج الغذائي، ويعد ميناء سنغافورة الأكثر ازدحاماً في العالم من حيث الحمولة الطنية.
إن تعددية الأعراق واللغات والديانات والأحزاب، لم يتسبب في حدوث اضطرابات ولا نزاعات، ولم يعرقل نمو البلد وتقدمه، بل على العكس من ذلك كان مصدر إثراء ومبعث اعتزاز لدى الحكومة والشعب. حيث تعترف الحكومة بأربع لغات رسمية هي لغات تلك المجموعات العرقية التي يتشكل منها الشعب، الصينية والإنجليزية والماليزية والتاميلية، وتصدر الصحف اليومية باللغات الأربع، وتبث برامج الإذاعة والتلفاز بأربع لغات أيضاً.
ومن الناحية الدينية فالفرصة متاحة للتعبير الحر، عن المعتقدات والعبادات للديانات الخمس، وفد حظي الإسلام بمجلس خاص مفوض بقانون برلماني هو المجلس الإسلامي السنغافوري، ويتولى الإشراف على شؤون المسلمين الدينية، وهناك حوالي ثمانون مسجداً في مختلف أنحاء سنغافورة، وللمسيحين كنائسهم ولسائر الديانات معابدها ومؤسساتها. والمشاركة السياسية مؤمنة للجميع على اختلاف أعراقهم ولغاتهم وأديانهم وأحزابهم، فرئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان ينتخبون من قبل الشعب مباشرة[3] ، وهكذا يتساوى الجميع من أبناء الأكثرية والأقلية في حقوقهم وواجباتهم، مما يعمّق عندهم الشعور بالإنتماء الوطني، ويدفعهم إلى التلاحم فيما بينهم، لإنعدام مبررات الاستعلاء أو الشعور بالغبن والاضطهاد.
رواندا:
وعلى الطرف النقيض من تجربة سنغافورة تأتي حالة (رواندا) هذا القطر الأفريقي الذي تبلغ مساحته أربعة أضعاف مساحة سنغافورة حيث تقدر بـ(26,338 كلم2) بينما لا تزيد سنغافورة على (633 كلم2)، كما أن عدد سكان رواندا سبعة ملايين نسمة، وهو أكثر من ضعف عدد سكان سنغافورة، الذي يقل عن ثلاثة ملايين نسمة.
وخلافاً لسنغافورة فإن رواندا تتمتع بثروات طبيعية من المعادن، كالبترول والغاز الطبيعي والذهب الخام والفحم، وفيها غابات ضخمة توفر الخشب المنشور وأخشاب الصناعة وحطب الوقود، وفيها ثروة حيوانية كبيرة. كما تتنوع فيها المعالم الطبيعية فهناك المرتفعات ذات الفوهات البركانية، والأودية المتعرجة، والبحيرات ذات المناظر الخلابة، فضلاً عن السهول الممتدة التي تغطيها الحشائش، ويطلق عليها بلد العشرة آلاف هضبة.
وفيها مجموعتان عرقيتان الهوتو 90% والتوتسي 9% ينتميان إلى أصل واحد لخضوعهما تاريخياً لملك واحد هو موامي. ويدين معظم أبناء القبيلتين بدين ومذهب واحد حيث يتبعون الكنيسة الكاثوليكية.
لكن هذا البلد يعيش وضعاً مأساوياً نكداً، بسبب افتقاده الاستقرار والسلم الاجتماعي، فمنذ مئات السنين تسيطر قبائل التوتسي -الأقلية- على قبائل الهوتو التي تشكل الأكثرية، ونتيجة لشعور الأكثرية الهوتو بالإجحاف والغبن تفجر صراع دموي عام 1959م ذهب ضحيته 150 ألف قتيلاً، وتشرّد 150 ألفاً آخرون، وسيطر الهوتو في أعقاب ذلك على السلطة والحكم، ثم تفجّر الصراع مرة أخرى سنة 1994م بشكل أعنف، فأدى إلى سقوط نصف مليون قتيل، ونزوح أكثر من مليوني مواطن، لجأوا إلى الدول المجاورة، ولقي عشرات الآلاف من هؤلاء اللاجئين حتفهم من الكوليرا وسائر الأمراض.
ونتيجة لهذا الاحتراب الداخلي، تعيش رواندا تخلفاً شاملاً، فهي دولة فقيرة اقتصادياً، رغم إمكاناتها الكبيرة، فقطاع الصناعة فيها ما زال محدوداً للغاية، والحياة المعيشية صعبة مما يضطر الكثيرين من مواطنيها للهجرة، طلباً للرزق في البلاد المجاورة، وتعاني عجزاً في الخدمات التعليمية والصحية، فنسبة الأمية 50%، ومتوسط العمر التقريبي 40 سنة فقط، وفي مجال المواصلات فإن معظم طرقها بريّة ترابية، وتفتقر لخطوط السكك الحديدية، وتحتاج دائماً للمساعدات الخارجية[4] .
ومن التأمل في هذين النموذجين المتقابلين، يبدو واضحاً أن الاستقرار والسلم الاجتماعي في تجربة سنغافورة، هو ثمرة طبيعية عن حالة المساواة والاحترام المتبادل بين الأطراف التي يتشكل منها الشعب هناك، بينما الصراع والنزاع في رواندا هو نتيجة حتمية لسياسية الإقصاء والتمييز والاضطهاد.
الحصانة والوقاية:
من الطبيعي أن تتأثر العلاقات الداخلية في أي مجتمع بمختلف العوامل السلبية والإيجابية، فهناك عوامل مساعدة على نمو تلك العلاقات وتوثيق أواصرها، وترشيد مسارها، وهناك عوامل أخرى من داخل المجتمع أو خارجه تلعب دوراً سلبياً في الإضرار بالسلم الاجتماعي، وإثارة الفتن والخلافات والنزاعات المدمرة.
من هنا تحتاج المجتمعات المهتمة باستقرارها ووحدتها الدينية والوطنية إلى اليقظة والوعي وإلى تفعيل المبادرات والبرامج الوقائية والعلاجية المساعدة على حماية سلمها من التصدع، وتعزيز وحدتها وتضامنها.
ونشير هنا إلى بعض تلك البرامج الهامة في هذا المجال:
1/نشر ثقافة السلم:
تلك الثقافة التي تثير في الناس فطرتهم النقية، ووجدانهم الإنساني، وتبعث عقولهم على التفكير بموضوعية وعمق في خدمة واقعهم ومستقبلهم الاجتماعي والوطني، وتلفت أنظارهم إلى التحديات الكبرى والأخطار الرئيسية المحدقة بهم كأمة ووطن، وتدفعهم إلى التنافس الإيجابي في الإنتاج والعطاء والإبداع.
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[5] ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾[6] .
وكمسلمين والحمد لله فان تراثنا وتعاليم ديننا الحنيف فيها ثروة عظيمة، وزخم هائل من التوجيهات والإرشادات، التي تجعل الوحدة والسلم في طليعة الفرائض والواجبات، وكما قال أحد علماء المسلمين: قام الإسلام على شيئين كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، ففي القرآن الحكيم عشرات من الآيات التي تدعو إلى حسن التعامل مع الناس بشكل عام، ورعاية حقوقهم المادية والمعنوية، ففي سياق الحديث عن الكفار يحذر الله تعالى من الاعتداء عليهم إن لم يبدأوا هم بالعدوان
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾[7] .
وعند الأمر بالدعوة إلى الله تعالى يؤكد الخالق جل وعلا على رعاية مشاعر المدعويين واحترام أحاسيسهم يقول تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [8] .
وينهى المسلمين أن يتناقشوا مع المخالفين لهم في الدين إلا بأفضل أسلوب وأحسن طريقة ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[9] .
وبشكل عام يؤكد القرآن على التخاطب الأفضل مع الناس لأن أي إساءة لفظية قد تكون مدخلاً للعداوة والبغضاء:
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ [10] .
ويدعو القرآن الكريم إلى التعامل الأفضل حتى مع الأعداء، بغرض تجاوز حالة العداء ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [11] .
هكذا يعتبر القرآن السيطرة على الانفعالات، والقدرة على التعامل مع المخالفين والأعداء بحكمة وروية، درجة سامية، لا يرقى إليها إلا ذوي القسط الوافر من الوعي والتقوى.
هذه التعاليم العظيمة نموذج من منظومة مفاهيمية ثقافية متكاملة، تشكل رؤية الإسلام وبرنامجه، لتوطيد السلم الاجتماعي، وتنميته وحمايته.
وفي المقابل هناك ثقافة سلبية تقوم بنشر الكراهية والحقد بين الناس، وتضخيم نقاط الاختلاف المحدودة، والتعتيم على مساحات الاتفاق الواسعة، وتشتغل بالتعبئة والتحريض، تحت عناوين مختلفة: عرقية أو مذهبية أو قبلية.
إن مثل هذه التوجهات تخالف منهج الإسلام، وتجر المجتمع إلى الفتن والويلات، وكما قيل فإن الحرب أولها كلام.
ولو استقرأنا الفتن والحروب الأهلية في المجتمعات الماضية والمعاصرة، لوجدنا بذورها قد نمت في أرضية مثل هذه الثقافة التحريضية البغيضة.
لذلك حينما يأمر الله عباده المؤمنين بالدخول جميعاً إلى رحاب السلم ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾
[12] يحذرهم بعد ذلك مباشرة من الاستجابة للإثارات الشيطانية ﴿وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[13] فالشيطان لا ينقل المجتمع بقفزة صاروخية مفاجئة نحو الصراع والاحتراب، بل يستدرجهم عبر سياسة الخطوة خطوة، والتي قد تبدأ بنشر ثقافة الكراهية والحقد.
2 /التربية الأخلاقية:
بأن تكون أجواء الأسرة، ومناهج التعليم، وسيرة القادة في المجتمع، ملتزمة بالتربية والتنشئة على أساس الاحترام المتبادل بين أطراف المجتمع.
إننا نجد الآن العديد من المجتمعات الغربية وبعد أن تكونت فيها جاليات من أعراق وثقافات وهويات مختلفة، تهتم بوضع مناهج وبرامج للتعريف والتعارف، ولتحقيق قدر من الاندماج الوطني يستوعب هذه الجاليات.
وقبل أيام نشرت الصحف صوراً لشرطيات بريطانيات مسلمات متحجبات، كما استثنت الشرطة البريطانية قبل فترة، السيخ من أصول هندية، من قانون لبس القبعة الخاصة الواقية عند قيادة الدراجة النارية، مراعاة لالتزامهم بلبس عمائمهم الخاصة بهم.
بالطبع في المجتمعات الغربية نزعات وتوجهات عنصرية معادية للآخرين، لكن هناك جهوداً تبذلها جهات عديدة رسمية وشعبية لمواجهة هذه النزعات، ولاستيعاب هذه الجاليات المختلفة.
وفي المقابل تعاني بعض مجتمعاتنا الإسلامية من أزمات اجتماعية، بسبب ضيقهم عن تحمل بعضهم بعضاً، حينما يختلفون في شيء من الخصوصيات والتفاصيل الجانبية، وهم أبناء دين واحد، ووطن واحد.
3 /إصلاح ذات البين:
وقد أكد الإسلام على الدعوة إلى الإصلاح ومعالجة حالات الاختلاف والصراع داخل المجتمع بين الأفراد أو الفئات يقول الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾[14] .
ويقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[15] .
إن الخلاف والصراع أمر محتمل الوقوع بين المؤمنين باعتبارهم بشراً لهم مصالح وأهواء، وقد يتصاعد هذا الاختلاف إلى حد الاقتتال، لكن المجتمع عليه أن يتدخل لوضع حد لهذا الصراع: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [16] .
وعن أبي الدرداء عن رسول الله أنه قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين» [17] .
وعن الإمام جعفر الصادق عن آبائه عن رسول الله أنه قال: «ما عمل امرؤ عملاً بعد إقامة الفرائض خيراً من إصلاح بين الناس، يقول خيراً وينمي خيراً» [18] .
إن مجتمعاتنا الإسلامية بحاجة ماسّة إلى وجود هيئات ومؤسسات تعمل على تنمية وحماية السلم الاجتماعي، وتواجه محاولات الفتن والتصدع الداخلي، بالسعي للتقريب بين القوميات والمذاهب والتوجهات والفئات الاجتماعية المختلفة. فهذه المشكلة الكردية الملتهبة في العراق وتركيا على الخصوص، ألا يجب أن ينبري العلماء والمفكرون لمواجهة مفاعيلها السياسية والاجتماعية والثقافية؟ وهذه المشكلة الطائفية الحادة في باكستان ألا ينبغي أن تحظى باهتمام الواعين المخلصين.
وكذلك الخلافات الحزبية في أفغانستان، وبذور وأجواء الفتن المذهبية في مناطق مختلفة من بلاد المسلمين.
إنها مسؤولية عظمى، وقضية هامة، لا يصح أن نمر عليها مرور الكرام.
وهذا هو دور العلماء الواعين، والمفكرين المخلصين.
ولا يصح أبداً أن تترك الساحة للجهات الساذجة أو المغرضة لتذكي أوار الفتن والخلافات، وتسمم الأجواء بالكراهية والحقد، ويكتفي المخلصون الواعون بمشاعر التأثر وجر آهات التألم، بل ينبغي تظافر الجهود المهتمة بمصلحة الدين والوطن في أرجاء عالمنا الإسلامي المترامي الأطراف، لأخذ مبادرات الإصلاح والدعوة إلى الوحدة والتقارب.
وتلوح في الأفق بشائر طيبة، نأمل أن تشق طريقها إلى الأمام، بهدف جمع شمل الأمة، وتوحيد صفوفها، وتوجيه جهودها وطاقاتها نحو مقاومة العدوان الصهيوني الغاشم، الذي يحتل مقدساتنا ويمارس أبشع الجرائم والإنتهاكات بحق إخواننا في فلسطين.