المرأة والدور القيادي
هل يمكن للمرأة أن تكون صاحبة رأي في مجال الفكر والتشريع الإسلامي؟ وهل يحق لها المشاركة في حركة الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي؟
أم أن أنوثتها تقصر بها عن بلوغ هذا المقام وتبقيها ضمن حدود الإتباع والتقليد للرجل؟
من المعلوم أن مفاهيم الدين وأحكامه تؤخذ من الكتاب والسنة، وهما خطاب مفتوح لكل ذي عقل، وموجهان لكل إنسان، ووعيهما والتدبر فيهما مطلوب من كل مكلف، ذكراً كان أو أنثى، فحينما يقول تعالى:﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾[1] ويقول تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾[2] ويقـول تعـالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقـُرْآنَ لِلذِّكْـرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[3] وحينما يقول النبي : «نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أدًّاها إلى من لم يسمعها»[4] فهذه الخطابات والأوامر لا تختص بالرجال دون النساء.
فكما يتفهّم الرجل آيات الكتاب العزيز، وأحاديث الرسول الكريم ، ويعرف منهما واجبه وتكليفه، فكذلك الحال بالنسبة للمرأة، وهذا ما كان معمولاً به في عصر النبوة والإِمامة.
وإذا كانت المسافة الزمنية التي تفصلنا عن عصر التشريع، قد جعلت عملية فهم النص الشرعي، ومعرفة الوظيفة من خلاله، تحتاج إلى درجة من الخبرة في بعض العلوم كأرضية ومقدمات لتحصيل القدرة على استنباط الحكم الشرعي من مصادره المقررة، كاللغة العربية، وتفسير القرآن، وعلم الدراية، وعلم الأصول.
فإن التوفّر على هذه الخبرة العلمية، إنما يستلزم حركة وقدرة ذهنية تمتلكها المرأة، كما يمتلكها الرجل. وبالتالي فبإمكان المرأة أن تصل إلى مستوى الفقاهة والاجتهاد، فتتعامل مع النص الشرعي مباشرة، وتستنبط المفاهيم والأحكام، وحينئذ ليست المسألة أنه يصح لها العمل بما يؤدي إليه رأيها واجتهادها، بل إنه يجب عليها ذلك.
لأن المجتهد - رجلاً كان أو امرأة - إذا استنبط الحكم بالفعل، فلا يجوز له أن يترك ما اتضح له أنه حكم الشرع، ويعمل برأي آخر.
فالمرأة يمكن أن تكون فقيهة مجتهدة، وأن تعمل برأيها وحسب اجتهادها.
المرأة والمرجعية
ناقش الفقهاء مسألة أهلية المرأة للتصدي للمرجعية والتقليد، بحيث يعتمد الآخرون على فتاواها، وتصبح مرجعية دينية تؤخذ منها الأحكام الشرعية.
والرأي السائد لدى الفقهاء والذي يذكرونه في رسائلهم العملية، هو عدم جواز تقليد المرأة، وإن اجتمعت فيها كل الشروط والمواصفات، على أساس أن الذكورة شرط في المرجعية.
لكن الملفت للنظر، أن أغلب أولئك الفقهاء حينما يناقشون المسألة علمياً وعلى صعيد الاستدلال والبحث، يعترفون بعدم وجود دليل مقنع للمنع من تقليد المرأة، ولسلبها أهلية المرجعية والإفتاء.
يقول السيد الحكيم في المستمسك: «وأما اعتبار الرجولة في شرائط المجتهد المقلد فهو أيضاً كسابقه عند العقلاء (غير ظاهر عند العقلاء) وليس عليه دليل ظاهر غير دعوى انصراف اطلاقات الأدلة إلى الرجل، واختصاص بعضها به. ولكن لو سلم فليس بحيث يصلح رادعاً عن بناء العقلاء. وكأنه لذلك أفتى بعض المحققين بجواز تقليد الأنثى والخنثى»[5] .
وقد بحث هذه المسألة الفقيه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وناقش أدلة المانعين، وخلص إلى: «أنه لا دليل على اشتراط الذكورة في مرجع التقليد، كما أن جميع ما ذكر لا يصلح للردع عن بناء العقلاء وسيرتهم على عدم الفرق، في رجوع الجاهل إلى العالم، بين كون العالم رجلاً أو امرأة، فيصح تقليد المرأة المجتهدة الفقيهة إذا كانت واجدة لبقية الشرائط المعتبرة في مرجع التقليد».
وعلى هذا اتفق الفقهاء وعلماء الحديث في باب الرواية.
والعمدة في المسألة بناء العقلاء، هذا مضافاً إلى أن أدلة حجية الرواية هي أدلة حجية الفتوى ومشروعية التقليد، ولا يمكن تجزئة دلالة الأدلة إلا بدليل مقيد أو مخصص، وقد تبين عدم وجود دليل من هذا القبيل. قال المحقق الأصفهاني: «فأما الذكورة فلا دليل عليها بالخصوص، وما ورد في باب القضاء من عدم تصدي المرأة له، وكذلك في الإمامة للرجال فالحكمة فيهما ظاهرة.
وهل حال الفتوى إلا كحال الرواية، ولذا يستدل بأدلة حجية الخبر على حجية الفتوى، من دون اختصاص لحجية الرواية بالرجال. مع أنه لا ينبغي الريب في جواز العمل لها برأيها أيضاً»[6] .
أما عند فقهاء السنة فيبدو أنهم متفقون على أن الذكورة ليست من شروط الإفتاء والمفتي، وبالتالي فهم يقبلون مرجعية المرأة في الأحكام الشرعية. جاء في الموسوعة الفقهية: «لا يشترط في المفتي الحرية والذكورية والنطق اتفاقاً، فتصح فتيا العبد والمرأة والأخرس»[7] .
المرأة والاصطفاء الإلهي
تحدث القرآن الكريم في موارد عديدة عن مفهوم الاصطفاء، وأن الله تعالى قد اصطفى أفراداً من خلقه وعباده، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[8] . وقوله تعالى:﴿وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾[9] ، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم :﴿وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ﴾[10] ، وعن نبيه موسى :﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾[11] وآيات أخرى عديدة.
والاصطفاء في اللغة العربية من مادة الصفو والصفاء. جاء في لسان العرب: صَفوَة كل شيء خالصة. والصِفوة - بالكسر -: خيار الشيء وخلاصته وما صفا منه. والصَفِيُّ من الغنيمة: ما اختاره الرئيس من المغنم واصطفاه لنفسه قبل القسمة من فرس أو سيف أو غيره. واستصفيت الشيء إذا استخلصته. والاصطفاء الاختيار، افتعال من الصفوة. ومنه: النبي صَفْوَة الله من خلقه ومصطفاه[12] .
ويتبين من معنى الاصطفاء لغة، ومن سياق ورود هذا المفهوم قرآنياً، أن اصطفاء الله تعالى لأحد يعني شيئين:
1- صفاء وخلوص ذلك المصطفى من الشوائب والثغرات، بأن يكون في قمة النزاهة والكمال ذهنياً وسلوكياً.
2- اختياره وتمييزه عن الآخرين وتقديمه لهم كرمز وقدوة، ليكون نموذجاً يقتفى ويهتدي به في طريق الخير والصلاح.
ولإرادة هذين المعنيين كرّر الله تعالى ذكر الاصطفاء في خطابه للسيدة مريم ابنة عمران يقول تعالى:﴿وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾[13] .
يقول ابن عاشور: وتكرر فعل اصطفاك لأن الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي، وهو جعلها منزهة زكية، والثاني بمعنى التفضيل على الغير، فذلك لم يُعدَّ الأول إلى متعلق، وعُدّي الثاني[14] .
هذا الاصطفاء الإلهي الذي يعني وجود أفراد من البشر يجسدون المبادئ والقيم في حياتهم، ويبلغون مستوى الطهارة والكمال، ويكونون قدوات وهداة، لبني الإنسان على امتداد التاريخ، لم يجعله الله تعالى رتبة خاصة بالرجال دون النساء، بل اصطفى عينات من النساء كما اصطفى من الرجال، مما يدل على قابلية المرأة وأهليتها لأعلى درجات الكمال، وأن تكون في موقع الريادة والإقتداء، وفي مستوى التفوق والامتياز على سائر بني البشر نساءً ورجالاً.
يقول تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين﴾[15] .
وآل إبراهيم وآل عمران فيهم الرجال والنساء. ومن النساء اللاتي نعرفهن: سارة وهاجر زوجتا إبراهيم ومن آل عمران: مريم وأمها. كما نص القرآن الكريم على اصطفاء مريم .
وحينما نزل الوحي بآية التطهير لأهل بيت رسول الله وهي قوله تعالى:﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[16] فإنها شملت فاطمة الزهراء إلى جانب علي والحسنين . يقول الشيخ ابن تيمية حول هذه الآية الكريمة: «وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أم سلمة: أن هذه الآية لما نزلت أدار النبي 2 كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»، وسنته تفسر كتاب الله وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه. فلما قال: «هؤلاء أهل بيتي» مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواجه، علمنا أن أزواجه وإن كن من أهل بيته كما دل عليه القرآن، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته، لأن صلة النسب أقوى من صلة الصهر»[17] .
وبكل وضوح يقدم القرآن الكريم المرأة المصطفاة كمثل ونموذج لجميع المؤمنين ذكوراً وإناثاً على مر العصور بقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ﴾[18] .
نبوة المرأة
الرؤية الإسلامية المتميزة للمرأة، والتي تقوّم المرأة من خلال إنسانيتها وقدراتها وإنجازاتها، ولا تعتبر أنوثتها معوقاً، ولا نقطة ضعف تقعد بها عن بلوغ أي مستوى من التقدم والكمال.. هذه الرؤية دفعت بعض العلماء للنقاش حول موضوع نبوّة المرأة، وأنه لا مانع من أن يمنح الله تعالى رتبة النبوة لبعض النساء، فمن الناحية العقلية حين يبحث علماء الكلام الصفات التي يجب أن تتوفر في النبي، فإنهم لا يعتبرون الذكورة شرطاً، حيث لا يمتنع عقلاً أن تكون المرأة نبية، وإذا كانت هناك آيات في القرآن تفيد أنه من الناحية الفعلية كان الرسل رجالاً كقوله تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾[19] .
فإن العديد من العلماء والمفسرين قد أشاروا إلى أن المقصود بالرجولة هنا هو البشرية، في مقابل توقع البعض أن يكون الأنبياء فوق مستوى البشر كأن يكونوا ملائكة، يقول تعالى:﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً﴾[20] .
قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾، «والرجال: اسم جنس جامد لا مفهوم له. وأطلق هنا مراداً به أناساً كقوله : «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»، أي إنسان أو شخص فليس المراد الاحتراز عن المرأة»[21] .
ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم من استخدام كلمة (رجل) بمعنى إنسان كقوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾[22] وقوله تعالى: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾[23] وقوله تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾[24] وغيرها، فإن المقصود هنا بالرجل والرجال ليس الذكور في مقابل الإناث كما هو واضح.
وأيضاً فإن هناك من يفرّق بين الرسول والنبي، على أساس أن كل رسول مطلوب منه التبليغ والدعوة، بينما لا يلازم النبوة ذلك، وبناءً عليه فإن الآيات إنما تنفي عن النساء الرسالة، ولكنها لا تنفي النبوة، كما يذهب إلى ذلك بعض علماء أهل السنة.
يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح صحيح البخاري، عند شرحه لحديث رقم 3411 عنه : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران...» قال ما يلي:
«استدل بهذا الحصر على أنهما نبيتان لأن أكمل النوع الإنساني الأنبياء ثم الأولياء والصديقون والشهداء، فلو كانتا غير نبيتين للزم ألا يكون في النساء ولية ولا صديقة ولا شهيدة، والواقع أن هذه الصفات في كثير منهن موجودة فكأنه قال ولم ينبأ من النساء إلا فلانة وفلانة... وقد نقل عن الأشعري أن من النساء من نبئ وهن ست: حواء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية ومريم، والضابط عنده أن من جاءه الملك عن الله بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام مما سيأتي فهو نبي، وقد ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمور شتى من ذلك من عند الله عز وجل، ووقع التصريح بالإيحاء لبعضهن في القرآن.
وقال ابن حزم: وحجة المانعين قوله تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً﴾[25] وهذا لا حجة فيه فإن أحداً لم يدع فيهن الرسالة، وإنما الكلام في النبوة فقط»[26] .
ونقل الآلوسي البغدادي في تفسيره روح المعاني أنه: «ذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد»[27] .
فاطمة الزهراء وأمهات المؤمنين
النصوص الواردة حول مقام فاطمة الزهراء تدل على أنها في موقع الريادة والحجة الشرعية على الناس رجالاً ونساءً.
إذ أن القرآن الكريم يحكم بطهارتها وانتفاء أي رجس عنها ضمن أهل البيت بقوله تعالى:﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[28] .
كما أن قول رسول الله في حقها: «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني»[29] والذي رواه البخاري عن المسور ابن مخرمة. وقوله : «إن الله عز وجل ليغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها» والذي رواه الطبراني في المعجم الكبير والحاكم في المستدرك والذهبي في الميزان وغيرهم[30] .
وأحاديث عديدة أخرى، تقدم السيدة الزهراء كرمز وقدوة للأمة الإسلامية جمعاء، وبالطبع فإن معنى ارتباط رضا الله برضاها، وغضب الله بغضبها، يدل على عصمتها ونزاهتها وكمالها، وأن سلوكها وممارساتها، بل وحتى مشاعرها وعواطفها منسجمة مع القيم الإلهية، لا تحيد عنها قيد شعرة، وإلا فكيف يرتبط رضا الله تعالى وغضبه بمن يصح عليه الرضا والغضب النابع من الهوى والانفعال؟
وبناء على ذلك فإن ما يصدر عن السيدة الزهراء من قول أو فعل أو موقف فإنه يكون كاشفاً عن الأمر والتشريع الإلهي. فهي حجة شرعية على جميع الناس، وهي – عليها الصلاة والسلام - حجة على كل أولادها الأئمة الطاهرين ولذا قال الإمام الحسن العسكري : «وهي حجة علينا»، وقال الإمام الحجة : «وفي ابنة رسول الله لي أسوة حسنة»، وقد قال الإمام الحسين : «أمي خير مني»[31] .
هكذا يقدم الإسلام المرأة في مقام ريادي، وموقع قيادي، ليؤكد قابليتها واستعدادها للكمال والتفوق، تماماً كما هو الحال بالنسبة للرجل.
كذلك كان لزوجات رسول الله أمهات المؤمنين موقعية خاصة لدى الصحابة والتابعين في نقل أحاديث الرسول والإخبار عن سنته وسيرته، لقربهن من حياته الخاصة.
وبمراجعة سريعة لصحيحي البخاري ومسلم مثلاً، وهما المصدران المعتمدان عند أهل السنة والجماعة، نجد عدداً وفيراً من الروايات عن أمهات المؤمنين، وخاصة أم المؤمنين عائشة بل نجد فيهما أن بعض الصحابة كانوا يرجعون إلى أمهات المؤمنين في بعض ما استشكل عليهم من المسائل الدينية.
وأكثر من ذلك فإن في الصحيحين روايات تشير إلى استدراك بعض أمهات المؤمنين على آراء وفتاوى بعض الصحابة جاء في صحيح مسلم عن عبيد الله بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن، أن ينقضن رؤوسهن.
فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن، أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاثة أفراغات. [32]
وقد ألف بدر الدين الزركشي كتاباً بعنوان (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) أحصى فيه استدراكاتها على تسعة وخمسين مسألة، عارضت فيها ثلاثة وعشرين من أعلام الصحابة.
وقال في مقدمة كتابه: «هذا كتاب أجمع فيه ما تفردت به عائشة O، أو خالفت فيه سواها، برأي منها، أو كان عندها فيه سنة بينة، أو زيادة علم متقنة، أو أنكرت فيه على علماء زمانها، أو رجع فيه إليها أجلة من أعيان أوانها، أو حررتهم الفتوى، أو اجتهدت فيه من رأي رأته أقوى»[33]