كيف تقهر الوسواس
يطلق علماء النفس على مرض الوسواس مصطلح: (العصاب القهري) أو (الاضطراب الوسواسي الجبري). وقد وضع فرويد أول وصف متكامل للعصاب القهري في كتابه (مقدمة عامة للتحليل النفسي) عام 1917م، بقوله: (ينشغل عقل المريض بأفكار غير سارة، ويشعر باندفاعات تبدو غريبة بالنسبة إليه، وأنه مدفوع ليؤدي أعمالاً لا تسره، وليس لديه القدرة على الامتناع عنها، وقد لا يكون للأفكار والوساوس معنى في ذاتها، لكنها مع ذلك، أفكار مثابرة ومسيطرة على عقل المريض دائماً)[1] .
وقدم العالم النفسي (وولمان) سنة 1973م وصفاً لهذا المرض قال فيه: (يتميز هذا المرض باقتحام مثابر لتفكير غير مرغوب، أو اندفاعات، أو أفعال، لا يستطيع المريض إيقافها. والتفكير قد ينصب على كلمة مفردة أو فكرة، أو سلسلة من الأفكار يدرك المريض أنها عمل أحمق. وتتراوح الأفكار بين حركات بسيطة، وطقوس معقدة، مثل: تكرار غسل اليدين، وغالباً ما يظهر القلق والضيق إذا ما امتنع المريض عن إكمال طقوسه القهرية، أو إذا اهتم بكونه غير قادر على التحكم فيها)[2] .
ويتمظهر هذا المرض بأشكال وألوان مختلفة عند المصابين به، فبعضهم يعاني من إلحاح هواجس وأفكار غريبة على ذهنه، كشعوره بأنه قد يرتكب جرماً معيناً، أو يصاب بحادث معين، والبعض يصاب بحالة من الوسواس في أمور النظافة والوقاية الصحية، كتكرار غسل الجسم أو اليدين أو الأواني التي يستخدمها، لتجنب القذارة والجراثيم، وهناك من يبتلى بالتشكيك وإساءة الظن في تصرفات المحيطين به، فيفسر أي كلمة أو حركة من الآخرين بشكل سلبي خاطئ، وكأنها ضده أو تستهدفه.
وتقدر نسبة المصابين بمرض الاضطراب الوسواسي الجبري في المجتمعات البشرية بحدود 2%، قياساً على إحصائيات المجتمع الأمريكي، وهذه النسبة معناها على المستوى الرقمي في الولايات المتحدة الأمريكية 490 ألف مريض يعانون العصاب الوسواسي تقريباً[3] .
هناك أفكار يقتنع بها الإنسان ويقبلها بوعيه وعقله، وهناك رغبات تنطلق من شهوات الإنسان وعواطفه، أما الوسواس فهو خواطر شاذة يدرك المصاب بها أنها خاطئة لا تستند إلى أساس، كما يشعر بثقل وطأتها عليه، فهو لا يرغبها ولا يحبها، ويبدي التذمر والتضجر من معاناته منها.
فالوسواسي يدرك أن لا معنى لأفعاله، وأن سلوكياته لا عقلانية ولا منطقية، إلا أنه يشعر بالعجز عن منع نفسه من الانخراط في هذه السلوكيات نظراً لنزوعاته غير الخاضعة لسيطرته.
ويرى بعض علماء النفس: أن عدداً قليلاً جداً من المرضى الذين لا ينظرون إلى سلوكياتهم كأمور لا معنى لها أو غير منطقية، بل يعتقدون أن لديهم السبب الكافي لما يبدونه من اهتمام في سلوكياتهم، كما وأن طقوسهم الجبرية ستمنع من تعريضهم لنتائج كارثية حسب معتقدهم[4] .
ويؤكد حديث ورد عن الإمام جعفر الصادق ، ما يذكره علماء النفس من إدراك الوسواسي غالباً لعبثية وسوسته، يقول عبد الله بن سنان: ذكرت لأبي عبد الله الصادق رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة - أي بالوسواس في نيتهما أو أفعالهما أو شرائطهما- وقلت: هو رجل عاقل. فقال أبو عبد الله : «وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟» فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: «سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو؟ فإنه يقول لك من عمل الشيطان»[5] .
فالوسواس لا يعتمد على أساس فكري منطقي، ولا ينبثق من رغبة نفسية، وإنما هو حالة مرضية تبدأ بخاطر يقتحم شاشة نفس الإنسان، فإذا ضعفت إرادة الإنسان عن طرده منذ البداية، وعدم الاستجابة له والتفاعل معه، فإنه ينمو ويترعرع، ويتمكن تدريجياً من السيطرة على مشاعر الإنسان وتوجيه سلوكياته.
ونتيجة لإدراك الوسواسي لشذوذ وضعه وحالته، فإنه لا يحبّذ إطلاع الآخرين عليه، وقد يتخفى في ممارساته وطقوسه الوسواسية، ولا يعترف بها بسهولة، حتى للقريبين منه.
تظهر جرثومة الوسواس وتتكاثر غالباً في مناطق اهتمامات الإنسان، والأمور التي يحرص عليها، ولأن الإنسان المتدين يهمه الالتزام بالأحكام والقضايا الشرعية، ويحرص على أداء وظائفه وواجباته الدينية، فإنه قد يصاب بهذا الفيروس في هذه المنطقة.
ونجد بالفعل أن بعض المتدينين يصاب بالوسواس في المجال الديني، ولعله من أخطر مجالات الإصابة بهذا المرض.
فالقلق الذي يعاني منه الوسواسي في أمور الدين أشد مما يكابده في المجالات الأخرى، لعمق المشاعر الدينية، وارتباط قضايا الالتزام الديني بالمستقبل الأخروي، وما يترتب على الإخلال بها من حساب وعقاب عند الله تعالى مما يجعله أكثر قلقاً واضطراباً. وقد يؤدي الوسواس الديني إلى رد فعل عند صاحبه تجاه الدين، كما تنقل قصص عن أشخاص تركوا الصلاة والتدين، بعد فترة من معاناة الوسوسة فيها.
من ناحية أخرى فإن الوسوسة في الأمور الدينية، تنفّر المحيطين بالوسواسي والمطلعين على أوضاعه من الدين، بسبب النموذج المشوّه الذي يقدمه لهم، ولخوفهم من تكرار تجربته في حياتهم.
لذا نجد النصوص والتعاليم الدينية تولي اهتماماً لمكافحة هذا المرض الخبيث، وتحذّر من الإصابة به، وتضخ المفاهيم والنصائح الوقائية منه.
أهم ما يحرص عليه المتدين سلامة عقيدته وحسن إيمانه، لأن ذلك هو أصل الدين وأساسه. ويحصل في بعض الحالات أن تمر على ذهنه بعض التساؤلات والتشكيكات في قضايا العقيدة والإيمان، وهي إذا كانت على شكل استفهام يبحث عن إجابة، فهذا ليس سيئاً لأن ذلك سيدفعه للتفكير والبحث، مما يوصله للمعرفة وثبات العقيدة. لكن المشكلة هي اقتحام هذه التشكيكات للنفس، دون تجاوب عقلي معها، لأنها لا تنطلق من حاجة معرفية، ولا نقص معلوماتي، لإيمان الإنسان عقلياً وفطرياً بمعتقداته.
وهنا تكون معاناة هذا الإنسان، فهو يؤمن بعقيدة ثابتة، ويحرص على التمسك بها، لكن خواطر مناقضة تهجم على نفسه وذهنه، فيرعبه ويقلقه حدوثها عنده، ويخشى من آثار ونتائج تلك الخواطر التشكيكية على إيمانه وارتباطه بدينه وربه.
ويعالج الإسلام هذه الحالة المرضية بتطمين المصاب بها، أنها لا تؤثر على دينه، وأن عليه أن لا يهتم ولا يبالي بها، وبذلك تتلاشى تدريجياً حتى ينعدم وجودها.
روت أم المؤمنين عائشة عن رسول الله أنه قال: «إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسولـه، فـإن ذلك يذهـب عنه»[6] .
وعن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله عن الرجل يجد الشيء لو خرَّ من السماء فتخطفه الطير كان أحب إليه من أن يتكلم به؟ قال : «ذاك محض الإيمان، أو صريح الإيمان»[7] .
وعن الإمام محمد الباقر قال: «إن رجلاً أتى رسول الله فقال: يا رسول الله إنني نافقت، فقال : والله ما نافقت ولو نافقت ما أتيتني، تعلمني ما الذي رابك؟ أظن العدو الخاطر أتاك فقال لك: من خلقك؟ فقلت: الله خلقني. فقال لك: من خلق الله؟ قال: إي والذي بعثك بالحق لكان كذا. فقال : إن الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم، فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله وحده»[8] .
وعن محمد بن حمران قال: سألت أبا عبد الله الصادق عن الوسوسة وإن كثرت، فقال:« لا شيء فيها، تقول: لا إله إلا الله»[9] .
وعن جميل بن درَّاج قال: قلت للإمام الصادق : إنه يقع في قلبي أمر عظيم،فقال:« قل: لا إله إلا الله. قال جميل: فكلما وقع في قلبي شيء قلت: لا إله إلا الله فيذهب عني»[10] .
بيد أن أكثر المصابين بالوسواس الديني يعانون منه في مجال الالتزام بأحكام الطهارة ومسائل العبادات.
فمثلاً أوجب الإسلام طهارة البدن والثياب من النجاسات كشرط لصحة الصلاة، فالمطلوب هو اجتناب ما علم نجاسته، أما الظن والشك والاحتمال فلا يؤخذ به، لأن الأصل هو الطهارة فيحكم بطهارة كل شيء ما لم تثبت نجاسته . وتلك قاعدة فقهية وردت بها نصوص عديدة، كموثقة عمار عن الإمام الصادق قال: «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قـذر، فإذا علمت فقد قـذر، وما لم تعلـم فليس عليـك»[11] .
وورد عن الإمام علي أنه قال:«ما أبالي أبول أصابني أو ماء، إذا لم أعلم»[12] .
هذا هو الحكم الشرعي، لكن المبتلى بمرض الوسواس في هذا المجال يضع لنفسه قاعدة معاكسة، ويعمل بشكل مناقض لحكم الشرع، فالأصل عنده نجاسة الأشياء، وطهارتها تحتاج إلى إثبات، إنه يشك في نجاسة كل شيء وعلى أساس الافتراضات البعيدة، والاحتمالات غير المنطقية، كما ينقل السيد الخوئي رحمه الله عن بعض المتقدسين أنه كان يعتقد نجاسة جميع المساجد الكائنة في النجف، من جهة انفعال الماء القليل بملاقاة الآلات والأدوات المستعملة في البناء!![13] .
ونقل أحد العلماء أنه رأى شخصاً في النجف كان يؤدي كل صلواته - طيلة عمره- مع التيمم اعتقاداً منه أن المياه كلها نجسة![14] .
ونقل أيضاً: أن الشيخ الأنصاري رحمه الله رأى في الحمام - للسباحة- وسواسياً يدخل الحمام ثم يخرج منه، ويكرر ذلك مراراً، سأله الشيخ عن سبب ذلك، فأجاب: إن هواء الحمام متصل بالمراحيض، لذا فهو نجس، فإذا لاقى الهواء بدني وما عليه من الرطوبة تنجس![15] .
وأوجب الإسلام الطهارة من الحدث لأداء الصلاة بالوضوء أو الغسل أو التيمم وأحكامها واضحة اليسر والسهولة، لكن مرض الوسواس يحوّلها إلى عملية معقدة، حيث يقضي بعض المصابين بهذا المرض وقتاً طويلاً، لإنجاز وظيفة الوضوء أو الغسل، ويهدرون كمية كبيرة من الماء، والأسوأ من ذلك ما يرهقون به أنفسهم من مشقة وعناء..
وقد ورد في أحاديث عديدة أن رسول الله كان يغتسل بصاع من الماء وأنه قال: «الوضوء مدّ والغسل صاع، وسيأتي أقوام بعدي يستقلّون ذلك فأولئك على خلاف سنتي، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس»[16] . والصاع 3 لتر تقريباً.
وعن الإمام الباقر :« إنما الوضوء حد من حدود الله، ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه، وإن المؤمن لا ينجّسه شيء، إنما يكفيه مثل الدهن»[17] .
وعنه أيضاً :«إذا مسّ جلدك الماء فحسبك»[18] .
وروى أن علياً كان يقول: الغسل من الجنابة والوضوء يجزي منه ما أجزأ من الدهن الذي يبلّ الجسد[19] .
هكذا يأمر الإسلام، وهكذا كان يفعل المعصومون، ومن تبعهم من العلماء والفقهاء، حيث لا يصرفون في الوضوء أكثر من دقيقة أو دقيقتين، وبمقدار يسير من الماء، فلماذا يتصرّف الوسواسيون في وضوئهم وغسلهم بهذه الطريقة الجنونية؟ حتى حكي عن بعض المبتلين بالوسواس كما ينقل السيد الخوئي: أنه أتى نهراً عظيماً للاغتسال، قبل أن تطلع الشمس بساعة، وفرغ من اغتساله والشمس قد غربت!![20] .
الصلاة فرصة لقاء روحي، وسمو معنوي، يحلّق خلالها المؤمن في آفاق التقرب إلى الله تعالى، ولذلك يقبل عليها بشوق واندفاع، لأنه في الصلاة يكون بين يدي الله تعالى، وكان رسول الله يعتبرها منبعاً للاطمئنان والاستقرار والراحة النفسية، حيث ورد في الحديث أنه كان يقول لبلال:«يا بلال: أقم الصلاة ارحنا بها» وفي حديث آخر «قم يا بلال فأرحنا بالصلاة»[21] . ويصفـها فـي أحاديـث أخـرى بقولـــه:«جعل الله جلّ ثناؤه قرة عيني في الصلاة» وإنما يستفيد المؤمن من ثمار صلاته المعنوية الروحية، بإقباله وخشوعه، لكن المصابين بالوسوسة في الصلاة تفقد الصلاة معناها عندهم، ولذتها في نفوسهم، وتتحول إلى موعد للعذاب، وحالة من العناء والاضطراب النفسي، والتوتر العصبي.
وأي غاية للشيطان أفضل من هذه الغاية؟ وأي انتقام يناله من المؤمن المصلي أشد من هذا الانتقام؟
إن بعضهم يتردد كثيراً ويشك كثيراً في تحقق نيته للصلاة، فيمكث فترة طويلة قبل تكبيرة الإحرام، وقد يعيد تكبيرة الإحرام أكثر من مرة، لعدم تأكده من تحقق النيّة، وهذا عرَض من أعراض مرض الوسواس، والنيّة المطلوبة للصلاة هي مجرد الانبعاث والاندفاع لأداء الصلاة باعتبارها واجباً شرعياً، ولا تختلف عن أي انبعاث للإنسان باتجاه أي حركة أو عمل، فهو إذا خرج للسوق قاصداً شراء حاجيات المنزل، فذلك القصد هو النية، وكذلك إذا قام واستقبل القبلة يريد الصلاة، فإن قيامه واستقباله يكشف عن الباعث في نفسه، وهو المقدار الكافي من النية.
يقول السيد اليزدي في العروة الوثقى: (ويكفي فيها الداعي القلبي، ولا يعتبر فيها الاخطار بالبال، ولا التلفّظ، فحال الصلاة وسائر العبادات حال سائر الأعمال والأفعال الاختيارية، كالأكل والشرب والقيام والقعود ونحوها من حيث النية، نعم تزيد عليها باعتبار القربة فيها بأن يكون الداعي والمحرّك هو الامتثال والقربة)[22] .
ويندد الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر بتكلف الوسواسيين في النية قائلاً: (فبسببه تحصل بعض أحوال لهم تشبه أحوال المجانين، وليت شعري أليست النيّة في الوضوء والصلاة وغيرهما من العبادات كغيرها من سائر أفعال المكلفين من قيامهم وقعودهم وأكلهم وشربهم؟ فإن كل عاقل غير غافل ولا ذاهل، لا يصدر عنه فعل من هذه الأفعال، إلا مع قصد ونية سابقة عليه، ناشئة من تصور ما يترتب عليه من الأغراض الباعثة، والأسباب الحاملة على ذلك الفعل، بل هو أمر طبيعي وخلق جبلي، ومع هذا لا ترى المكلف في حال إرادة فعل من هذه الأفعال، يعتريه شيء من الوسوسة وذلك الإشكال، بل هو بالنسبة إلى العبادات الأخر، من الزيارات، والصدقات، وعيادة المرضى، وقضاء الحوائج، والأدعية والأذكار، وقراءة القرآن، ونحو ذلك، لا يعتريه شيء من تلك الأحوال، بل هو فيها على حسب سائر أفعال العقلاء، فما أعرف ماذا يعتريه في مثل الوضوء؟)[23] .
نقل أحد العلماء: أن رجلاً يدعى محمد صالح، وكان يذهب بابنه إلى الحمام، ويضعه عند خزّان الماء هناك، وحين يعزم على الاغتسال، يومئ إلى الطفل، وهو ينوي الغسل ويقول: اللهم إني محمد صالح، ها أنذا أغتسل بنفسي غسل الجنابة، تلك الجنابة التي حصلت لي من أم هذا الولد الحاضر هنا، قربة إلى الله تعالى، ثم يغطس في الماء، وما إن ينتهي حتى يحتمل أنه لم ينطق ببعض مخارج الحروف كما يجب، فيعود، ويجدد النية كما فعل أولاً، ويرتمس، وهكذا!![24] .
أليست هذه حالة مرضية؟ بل جنونية؟ هذا ما يفعله الوسواس بالخاضعين له.
وحاشا الله تعالى أن يأمرهم بذلك، وهؤلاء فقهاء الإسلام يستنكرون مثل هذه الممارسات، فقد كان على عهد المرحوم الميرزا القمي رحمه الله شخص وسواسي، قام ليصلي صلاة المغرب، فلم يتمكن من النيّة، حاول كثيراً إلى أن مضت من الليل ثلاث ساعات، دون أن يستطيع ذلك، فلما تعب قصد الميرزا في داره وقال له: أنا من مقلديكم، وقد عزمت على الصلاة لكني لم أتمكن من تحصيل النية، فما العمل؟ قال له الميرزا: اذهب وصل بدون نية، وصلاتك صحيحة. رجع المسكين إلى داره وحاول أن يصلي بدون نية فلم يستطع. فعاد إلى الميرزا ثانية، وشكا إليه حاله، وأن في نفسه حينما أراد الصلاة شيئاً من النية لكن ليس بالقدر الكافي، فلا يستطيع تحقيق النية كاملة، ولا يتمكن من إلغائها كاملة، فماذا يصنع؟ فأجابه الميرزا: هذا المقدار من النية لا بأس به، اذهب وصل ولا إشكال[25] .
قد تحصل للمصلي حالات من الشك والسهو في أفعال الصلاة أو أذكارها، وذلك أمر طبيعي ضمن الحدود المتعارفة، ولهذه الحالات أحكام يذكرها الفقهاء، لكن كثرة الشك، والسهو، تعتبر عرضاً من أعراض مرض الوسواس، لذلك يستثنيها الفقهاء من انطباق أحكام الشكوك، ويتعاملون معها كحالة مرضية ينبغي معالجتها بعدم الاستجابة لها، لذلك أفتى الفقهاء بأن (الوسواسي إذا شك في الإتيان بالصلاة وعدمه فإنه يبني على أنه قد أتى بالصلاة وإن كان شكه أثناء وقت الصلاة)[26] .
وأفتوا بأن لا قيمة لـ(شك كثير الشك وإن لم يصل إلى حد الوسواس، سواء كان في الركعات والأفعال، أو الشرائط، فيبني على وقوع ما شك فيه، وإن كان في محله، وإذا شك في حصول ما يفسد الصلاة يبني على عدم وقوعه، فلو شك بين الثلاث والأربع يبني على الأربع، ولو شك بين الأربع والخمس يبني على الأربع أيضاً، وإن شك أنه ركع أم لا؟ يبني على أنه ركع، وإن شك أنه ركع ركوعين أم واحداً بنى على عدم الزيادة، ولو شك أنه صلى ركعة أو ركعتين بنى على الركعتين، ولو شك في الصبح أنه صلى ركعتين أو ثلاثاً بنى على أنه صلى ركعتين، وهكذا)[27] وحينما يشك في صحة كلمة أو لفظة في القراءة أو الأذكار يبني على الصحة.
واعتبر كثير من الفقهاء أن من يعتريه الشك في صلاة واحدة ثلاث مرات، أو في كل ثلاث صلوات مرة واحدة، دون مبرر استثنائي كما لو كان في حالة خوف أو غضب أو همّ، فإنه حينئذٍ ينطبق عليه أنه كثير الشك ولا يبالي بشكه بل يبني على الصحة. وبعض الفقهاء أرجع تحديد الحالة إلى العرف، فمن اعتبره العرف كثير الشك كان له حكمه[28] .
بل قال الفقهاء أنه: (لا يجوز لكثير الشك الاعتناء بشكه، فلو شك في أنه ركع أو لا؟ لا يجوز له أن يركع، وإلا بطلت الصلاة)[29] .
من أبرز أساليب العلاج المعتمدة حالياً في المراكز الرائدة في العلاج النفسي السلوكي في الولايات المتحدة، لمرض الاضطراب الوسواسي الجبري، هو برنامج منع الاستجابة، والذي يعني منع المريض من ممارسة تصرفاته الوسواسية، لفترة معينة تحت رقابة وإشراف، داخل مستشفى العلاج، أو في بيته بواسطة المرافقين له. مع توفير أجواء مساعدة.
وقد لوحظ نجاح هذا البرنامج مع كثير من المرضى الراغبين في العلاج، لكنه قد يتطلب وقتاً طويلاً يتفاوت من مريض إلى آخر، ويستلزم صبراً وأناةً من الجهة المشرفة على العلاج[30] .
وإذا ما تأملنا التعاليم الإسلامية حول أحكام المصابين بالوسواس، وكثرة الشك في قضايا الطهارة والعبادات، فإنها تلزم المصاب باعتماد برنامج منع الاستجابة، وأن يباشر ذاتياً مع نفسه هذا البرنامج، فلا يعتني بحالة الشك والوسوسة، ولا يستجيب لها، وذلك هو تكليفه الشرعي، وهو الطريق الوحيد لتخلصه من هذا المرض.
1- عن زرارة وأبي بصير عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه، فإن الشيطان خبيث يعتاد لما عوّد، فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرّن نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك. قال زرارة: ثم قال : إنما يريد الخبيث أن يطاع، فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم»[31] .
ويتبين من الحديث أن الوسواس حينما يبدأ عند الإنسان فعليه أن ينتبه لنفسه، ويتغلب عليه مبكراً، بمنع الاستجابة، والاستمرار في صلاته، وإن كان غير متأكد وواثق من صحتها: «فليمض أحدكم في الوهم» وإن الاستمرار في برنامج منع الاستجابة كفيل بتجاوز هذه الحالة المرضية: «فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك».
2- وضمن هذا السياق وردت أحاديث عديدة كرواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر قال: «إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك فإنه يوشك أن يدعك إنما هو من الشيطان»[32] .
3- وعن أبي عبد الله الصادق قال: «إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك»[33] .
4- وعنه : «إذا كان الرجل ممن يسهو في كل ثلاث فهو ممن كثر عليه السهو»[34] .
منذ وقت قريب ظهرت فكرة العلاج المعرفي للاضطراب الوسواسي سنة 1976م، وقام كل من (كابلان) و(روبرتسون) سنة 1983م بتطبيق هذا الأسلوب من العلاج على عدة حالات وكان نتاج العلاج ناجحاً.
ويستهدف هذا البرنامج إعادة تركيب البنية المعرفية للمريض في مجال إصابته، على أساس تصور ينظر إلى أن موضوع الوسواس كالصلاة أو الوضوء مثلاً هو بمثابة منبه معرفي، يستدعي ويثير الاستجابات الانفعالية، والتي هي الخوف من الخلل والخطأ في الأداء، تترتب عليها استجابة معرفية هي الاعتقاد بالمسئولية الذاتية تجاه الخلل، والشعور بالإثم والذنب.
فالعملية طبق هذا التصور تمر بثلاث مراحل:
1. المنبه المعرفي -الصلاة أو الوضوء-.
2. الاستجابة الانفعالية -الخوف من الخلل والخطأ-.
3. الاستجابة المعرفية -الاعتقاد بالمسؤولية والشعور بالإثم-.
والعلاج المعرفي يعني إعادة بناء تفكير المريض وتصحيحه، لتبديل ما يسمى بالأفكار الآلية المعززة، التي أخذت صفة الاستمرارية بعيدة عن السيطرة والاستبصار الذاتي، ورغم أن أكثر الوسواسيين يعترفون بلا منطقية أعمالهم وممارساتهم، لكن تضخّم بعض التصورات في نفوسهم، والمبالغة والتطرف في بعض الأفكار، هو ما يشكل أرضية لحالتهم المرضية.
فلا بد من هزّ تلك التصورات الخاطئة، ونسف حالة الغلو والمبالغة في الأفكار المعززة لهذا الاضطراب.
ويمكن التركيز على النقاط التالية:
- إن الله تعالى هو الذي يقرر موارد الإثم، والأمور التي تستوجب الحساب والعقاب، ولا يصح للإنسان أن يتبرع من نفسه فيقرر أن هذا ذنباً، وأن هذا العمل يستوجب إثماً، فذلك افتراء على الله. وما دام الشرع يعلن بوضوح: أن لا مسؤولية عليك في موارد شكك وسهوك، واحتمالك للخلل والخطأ، ويقول لك: إن عملك صحيح، فكيف يجوز لك أن تتوقف عن قبول حكم الله وترفضه؟
فإذا كنت تكرر عملك في الوضوء والصلاة فراراً من الإثم والذنب، فإنك بهذا التصرف توقع نفسك في أعظم إثم وأسوأ ذنب.
- عرض وتبيين مفاهيم اليسر والسماحة في الدين، فقد أنزل الله شريعته رحمة للناس ولإسعاد حياتهم، يقول تعالى:﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾[35] ويقول تعالى:﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [36] كما تقرر مبادئ الشريعة أصالة الطهارة، وأصالة الإباحة، ورفع المسؤولية عن الجاهل والناسي، وأن كل عمل فرغت منه أو تجاوزته ثم شككت فيه فلا قيمة ولا أثر لذلك الشك.
- الحديث عن عفو الله ورحمته وأنه تعالى خلق الناس ليرحمهم، وأن عفوه واسع، وكرمه عظيم، وبالتالي لا داعي لهذا التشدد والتكلف.
- ذكر نماذج وصور من أداء الأنبياء والأئمة والأولياء والعلماء لعباداتهم وأعمالهم الدينية على أساس السهولة واليسر ومن دون أي تعقيد أو تهويل.
إن إحاطة المبتلى بالوسواس بهذا الجو المعرفي، وتكرار هذه الأفكار والطروحات عليه، إضافة إلى تشجيعه على برنامج منع الاستجابة، يساعد كثيراً على تفكيك تصوراته الخاطئة، وإعادة بناء أفكاره، وتصحيح ممارساته بشكل تدريجي، قد يستغرق وقتاً، لكنه يؤدي إلى نتيجة مفيدة.
كأي مرض من الأمراض فإن للوسواس بيئة تساعد على نموه وتكاثره، وفي المجال الديني فإن الطروحات المتشددة والمتزمته للمسائل الدينية، قد تكون أرضية مناسبة لبذرة الوسوسة، وقبل أيام اطلعت على قضية امرأة كانت تعيش وضعاً عادياً في حياتها وأعمالها الدينية، فسافرت للحج، وكان المرشد الديني في الحملة التي التحقت بها، يدقق كثيراً على طريقة أداء الوضوء وأعمال الصلاة، ومن خلال بحثه وتوجيهه واسئلتها له، أكدّ لها أن وضوئها وصلواتها في السنين السابقة مليئة بالأخطاء وأنها باطلة، وأن عليها أن تعيد وتقضي كل عباداتها للفترة الماضية، وهنا تسللت جرثومة المرض إلى نفسها، وما انتهت من رحلة الحج وعادت إلى بلادها، إلا وهي مصابة بحالة من الوسواس، أخذت تنمو عندها وتزداد حتى تحولت حياتها الشخصية والعائلية إلى جحيم، إنها تصرف ساعات لأداء كل فريضة من الفرائض.
وبالطبع هناك تهيؤ في بعض النفوس أكثر من بعض لاستقبال عدوى المرض، لتفاوت درجة المناعة والحصانة. لكن التوجيه الديني يجب أن يأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار.
فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «إن الدين يسر»[37] وعنه : «خير دينكم أيسره»[38] وعنه:«إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرّهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبّت الذي لا سفراً قطع، ولا ظهراً أبقى»[39] .
وفي بعض الأحيان يكون الحرص على الاحتياط في أمور العبادات مدخلاً إلى مرض الوسواس، والاحتياط وإن كان محبباً لما ورد في الحديث عن علي : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»[40] لكن المبالغة فيه، واحتمال الضرر بالوسواس منه، يجعله في معرض الكراهة أو الحرمة الشرعية، كما ذكر الفقهاء في موضوع الطهارة والنجاسة، يقول السيد اليزدي: (الدهن واللبن والجبن المأخوذ من أهل البوادي محكوم بالطهارة، وإن حصل الظن بنجاستها، بل قد يقال بعدم رجحان الاحتياط بالاجتناب عنها، بل قد يكره، أو يحرم إذا كان في معرض الوسواس)[41] .
قهر مرض الوسواس له طريقة واحدة، هو قرار المريض نفسه وإرادته، بالطبع يحتاج إلى شجاعة كبيرة، وجرأة عظيمة، لكي يقرر عدم الاستجابة للانفعالات الوسواسية داخل نفسه، ورغم صعوبة ذلك لكنه أمر ممكن، وهناك الكثيرون ممن تعافوا من هذا المرض وتجاوزوه، بعد فترة من معاناة التزام العلاج، وما يسببه لهم من توتر نفسي وضغط عصبي، لكنهم بعد ذلك شعروا بحياة جديدة، وسعادة غامرة.
وعلى المحيطين بالمريض والقريبين منه أن يساعدوه في مقاومة هذا المرض الخبيث، ليس بالسخرية منه والتنكيت عليه، وإنما بتشجيعه على برنامج منع الاستجابة، وتذكيره بالمفاهيم المعرفية المساعدة، وأخذ دور المراقبة والإشراف على انضباطه في العلاج. إنه مريض يثير الشفقة وفي مساعدته وإنقاذه أجر وثواب كبير.