المواجهة الفكرية هي السبيل
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
حين يتبنى الإنسان رأياً باعتباره حقاً وصوابا، ويرفض رأياً آخر باعتباره باطلاً وخطأً، فإنه غالباً ما يندفع للانتصار للرأي الذي يؤمن به ويسعى لنشره، كما يهتم بإضعاف جبهة الرأي الآخر، وخاصة على مستوى الرأي الديني والمعتقدات الفكرية.
ومن المشروع أن يجتهد الإنسان في خدمة متبنياته الفكرية، فذلك هو ما يخلق الحراك الفكري في المجتمع البشري، عبر حالة التنافس، واستثارة العقول، وكشف ثغرات الآراء، وإذا لم يهتم أصحاب الآراء بطرح أفكارهم والدفاع عنها تسود حالة الركود الفكري، والجمود المعرفي.
لكن هناك نهجين في الانتصار للرأي:
نهج العنف والقمع لأصحاب الرأي الآخر، بمحاصرتهم والتضييق عليهم، والتنكيل بهم، ليتراجعوا عن آرائهم، ولمنع انتشارها في المجتمع.
نهج المواجهة الفكرية. بالاجتهاد في تبيين الرأي وإثبات صحته وأحقيته بالدليل العلمي والبرهان المنطقي، ونقد الرأي الآخر بكشف نقاط ضعفه، ومكامن الخطأ فيه، وإبطال حججه ومستنداته.
استخدام العنف ضد الرأي الآخر نهج خاطئ فاشل، فهو مصادرة لحرية الإنسان في أعمق دوائرها، وانتهاك لأقدس حقوقه وأهمها، كما أن تجارب التاريخ قد أثبتت فشل أسلوب العنف في القضاء على الفكر وإنهاء الرأي.
وعادة ما يستخدم الجبابرة الظلمة هذا الأسلوب، حيث يمارسون العنف والقمع ضد أصحاب الرأي الآخر، حين يكون فيه مساس بمصالح سلطتهم، أو لأنهم يريدون التظاهر بحماية الدين، أو لمجرد فرض هيبتهم وتسلطهم وإرعاب الناس.
ومن المؤسف أن كثيرين من الحكام في تاريخ الأمة الإسلامية قد سلكوا هذا النهج، ليس فقط ضد أصحاب الرأي السياسي المعارض، وإنما ضد الآراء الدينية والفكرية، تارة بعنوان الحرب على الزندقة والإلحاد، وأخرى بعنوان التصدي للبدع والأفكار المنحرفة في الساحة الدينية.
لقد رفع الخليفة المهدي العباسي، والذي حكم الأمة من سنة 158 حتى مات سنة 169هـ، شعار محاربة الزنادقة، حيث بدأت تنتشر بعض أفكار التشكيك في الدين، وبدلاً من مواجهتها بالعلم والمنطق، شهر الحاكم في وجوههم السيف، وكان هناك تسرع كثير في إراقة الدماء واستخدام العنف.
جاء في تاريخ الدولة العباسية للشيخ محمد الخضري بك:
وكان المهدي مغرى بالزنادقة الذين يرفع إليه أمرهم، فكان دائماً يعاقبهم بالقتل، ولذلك كانت هذه التهمة في زمنه وسيلة إلى تشفي من يحب أن يتشفى من عدو أو خصم..
كان كاتب الدنيا وأوحد الناس حذقاً وعلماً وخبرة الوزير أبو عبيد الله معاوية بن يسار مولى الأشعريين، وكان متقدماً في صناعته، وله ترتيبات في الدولة، وصنف كتاباً في الخراج وهو أول من صنف فيه..
حصل حقد عليه من الربيع الحاجب، فوشى عليه عند المهدي بأن ابنه محمداً متهم في دينه، فأمر المهدي بإحضاره (الولد) وقال: يا محمد اقرأ فذهب ليقرأ فاستعجم عليه القرآن، فقال المهدي لأبيه الوزير أبي عبيد الله معاوية بن يسار: يا معاوية ألم تخبرني أن ابنك جامع للقرآن؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكنه فارقني منذ سنين وفي هذه المدة نسى القرآن.
فقال المهدي: قم فتقرب إلى الله بدمه. فذهب ليقوم فوقع.
فقال العباس بن محمد: يا أمير المؤمنين إن شئت أن تعفي الشيخ، ففعل، وأمر المهدي بابنه فضرب عنقه.(1)
هكذا يكون مجرد الاتهام في الدين، والارتباك في قراءة القرآن مبرراً لقتل هذا الإنسان، وأن يُطلب من أبيه مباشرة عملية القتل!!.
وخلفاء آخرون مارسوا العنف والقمع تجاه من يقولون برأي مخالف في مسألة عقدية جزئية، كما حصل في ما عرف بمحنة القول بخلق القرآن.
فقد كان الخليفة هارون الرشيد يتبنى القول أن القرآن ليس مخلوقاً، ويقمع القائلين بفكرة خلق القرآن، حتى قال يوماً: بلغني أن بشر المريسي يقول: القرآن مخلوق. والله والله لئن أظفرني الله به لاقتلنه قتلة ما قتلها أحد. ولما علم بشر ظل متوارياً أيام الرشيد.
وقال بعضهم: دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق، والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلته لأنه قال: القرآن مخلوق.
وفي عهد الخليفة الواثق العباسي تغير رأي الحاكم، فتعرض من يقول بأن القرآن ليس مخلوقاً للقتل والتنكيل، كما حصل لأحمد بن نصر الخزاعي الذي قبض عليه والي بغداد، وامتحنه الواثق فأصر على رأيه أن القرآن ليس بمخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، فدعا الخليفة بالسيف، وقال: إني احتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده، وضرب عنقه، وأمر به فحمل رأسه فنصب بالجانب الشرقي أياماً، ثم بالجانب الغربي أياماً، وعلقت برأسه ورقة «هذا رأس أحمد بن نصر الذي دعاه الإمام الواثق إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجل الله به إلى ناره».(2)
إن الطريق المشروع والنهج الصحيح لنشر أي فكرة ومبدأ، هو عرضها بأحسن بيان، والدعوة إليها بالمنطق والبرهان، والجدال عنها بأفضل أساليب التخاطب مع العقول والنفوس، وذلك هو النهج الإلهي الذي قرره القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(3).
كذلك فإن مواجهة الأفكار الباطلة، والآراء الخاطئة، يكون بنقدها ومناقشتها، وتسليط الأضواء على مكامن انحرافها، ونقاط ضعفها.
إن الرسالات الإلهية تتعامل مع الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً مريداً، ولذلك تحترم عقله وتتخاطب معه، وتراهن على الثقة به وحسن اختياره.
كما ترفض أساليب الهيمنة وممارسة الوصاية الفكرية، بما تعني من تجاهل لدور العقل، ومصادرة لحرية الإنسان.
فالتخاطب مع العقل لا يكون بلغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجة والبرهان: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾(4). ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾(5). ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾(6). ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(7).
تلك هي المبادئ الناظمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقانية الدين وبطلان ما عداه.
ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المخالف في الدين والرأي لمجرد مخالفته، ما لم يمارس عدواناً يستلزم الردّ والردع.
كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصي بالبر بهم والإحسان إليهم ما داموا مسالمين غير معتدين.
يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(8).
وقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر، قدمت عليها أمها وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، فقدمت على ابنتها أسماء بهدايا: زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله ، فقال: «لتدخلها». وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله فاستفتيت رسول الله قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك»(9).
وفي وصية القرآن الكريم بالبر بالوالدين، يشير إلى أن واجب البر بهما، وحسن العلاقة معهما، لا يتأثر بالاختلاف الديني معهما، حتى وإن كانا يضغطان على الولد باتجاه الشرك بالله، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾(10).
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأرحام والأقرباء، فإن الاختلاف الديني والفكري لا ينبغي أن يؤثر على مستوى التواصل معهم كأرحام، جاء عن الإمام جعفر الصادق أنه سأله الجهم بن حميد قائلاً: يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: «نعم حق الرحم لا يقطعه شيء»(11).
إن على المسلم أن يلتزم حسن الخلق مع كل من يتعامل ويتعاطى معه، حيث ورد عن رسول الله أنه قال: «أحسن صحبة من صاحبك تكن مسلما»(12)، وجاء عن حفيده الإمام جعفر الصادق : «ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه»(13).
من أسوأ أمراض الساحة الدينية في مجتمعاتنا، ما يسود معظم أجوائها من حالات الصراع والخصام الداخلي، وسعي بعض الجهات لممارسة دور الوصاية على أفكار الآخرين. فما تراه هي هو الحق المطلق الذي لا يجوز لأحد الخروج عليه، وإلا استحق النبذ والطرد، والمحاصرة والإلغاء، وأصبح مستهدفاً في وجوده المادي والمعنوي.
نجد ذلك على صعيد الخلافات المذهبية، حيث تتبادل الأطراف مع بعضها تهم التكفير والتبديع والمروق من الدين، ويجري التحريض على الكراهية في أوساط الأتباع، وقد يصل الأمر إلى إباحة هدر الدماء وانتهاك الحقوق والأعراض.
كما نجد ذلك على مستوى الخلافات داخل المذهب الواحد، حين تتعدد المدارس، وتختلف الآراء في بعض التفاصيل العقدية والفقهية في إطار المذهب نفسه.
إن اعتقاد كل طرف صوابية رأيه وخطأ الرأي الآخر أمر مقبول، بناءً على مشروعية حق الاجتهاد، لكن إنكار حق الطرف الآخر في الاجتهاد وإبداء الرأي، والتعبئة ضده بالتشكيك في دينه واتهام نواياه، هو مزلق خطير يؤدي إلى تمزيق الساحة الدينية، وتشويه سمعتها، ودفع أبنائها إلى الصراع والاحتراب، كما حصل بالفعل.
إن التعبير عن الرأي الاجتهادي عقدياً وفقهياً ضمن الضوابط المقررة أمر مشروع، وحق مكفول للجميع، ولا يصح أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، فإن ذلك إرهاب فكري، وإغلاق فعلي لباب الاجتهاد، وحرمان للساحة العلمية من الثراء المعرفي.
أما الحذر من وجود آراء خاطئة، وطروحات منحرفة، تخالف المعتقدات السائدة، والاتجاهات الفقهية المشهورة، فهذا لا يقف أمامه القمع والتهريج، وإنما المواجهة العلمية الفكرية، التي تثبت ضعف الرأي الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحة الرأي المتين وأصالته، وتعالج الإشكالات المثارة حوله.
إن أساليب القمع والإرهاب الفكري لا تستطيع أن توقف زحف الرأي الآخر، بل قد تخدمه بإثارة الاهتمام به، وتكتل أتباعه للدفاع عنه، ولتعاطف الكثيرين مع ظلامتهم بسبب ما يستهدفهم من قمع وتشويه. وخاصة في هذا العصر الذي سادت فيه شعارات الحرية والانفتاح، وتطلعات التغيير والتجديد.
إن تمزيق صفوف المؤمنين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حرمات بعضهم بعضا، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، جريمة أكبر وخطر أعظم من وجود رأي في قضية جزئية نعتبره خاطئاً باطلا.
ثم إن تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وسيرة الأئمة الطاهرين لا تقبل مثل هذه الأساليب ولا تتطابق معها.
وهناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت يحذرون فيها شيعتهم وأتباعهم من نهج الإقصاء والإلغاء لبعضهم بعضا على أساس الاختلاف في بعض الجزيئات العقدية.
جاء في الكافي عن يعقوب بن الضحاك، عن رجل من أصحابنا سرّاج وكان خادماً لأبي عبدالله قال: جرى ذكر قوم عند أبي عبدالله جعفر الصادق ، فقلت: جعلت فداك إنّا نبرأ منهم، إنهم لا يقولون ما نقول.
قال: فقال : يتولّونا ولا يقولون ما تقول تبرؤون منهم؟
قال: قلت: نعم
قال : فهوذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟ قال: قلت: لا ـ جعلت فداك ـ قال: وهوذا عند الله ما ليس عندنا أفتراه أطرحنا؟ قال: قلت: لا والله جعلت فداك، ما نفعل؟
قال : فتولّوهم ولا تبرؤوا منهم، إن من المسلمين من له سهم، ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم؛ ومنهم من له أربعة أسهم؛ ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم؛ ومنهم من له سبعة أسهم، فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة، ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة.(14)
وقد عقب العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) على العبارة الواردة في الرواية «إنهم لا يقولون ما نقول» بقوله: «أي من مراتب فضائل الأئمة وكمالاتهم ومراتب معرفة الله تعالى، ودقائق مسائل القضاء والقدر، وأمثال ذلك مما يختلف تكاليف العباد فيها، بحسب افهامهم واستعداداتهم، لا في أصل المسائل الأصولية، أو المراد اختلافهم في المسائل الفرعية، والأول أظهر»(15).
وفي الكافي أيضاً عن عبدالعزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبدالله: يا عبدالعزيز إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشر، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فأرفعه إليك برفق، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره.(16)
وعن الصباح بن سيابة، عن أبي عبدالله : قال: ما أنتم والبراءة، يبرء بعضكم من بعض، إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصراً من بعض، وهي الدّرجات.(17)
وفي بحار الأنوار عن كتاب الخصال عن عمار بن أبي الأحوص قال: قلت لأبي عبدالله : إن عندنا أقواماً يقولون بأمير المؤمنين ويفضلونه على الناس كلّهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم أنتولاهم؟ فقال لي: نعم، في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله، ولرسول الله : [من] عند الله ما ليس لنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم؟(18)
وجاء عن زرارة، عن أبي جعفر قال: قلنا له: من وافقنا من علوي أو غيره تولّيناه، ومن خالفنا برئنا منه من علوي أو غيره، قال: يا زرارة قول الله أصدق من قولك، أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.(19)
وعن محمد بن عيسى، عن القاسم الصيقل رفع الحديث إلى أبي عبدالله قال: كنّا جلوساً عنده، فتذاكرنا رجلاً من أصحابنا، فقال بعضنا: ذلك ضعيف، فقال أبو عبدالله : إن كان لا يقبل ممن دونكم حتى يكون مثلكم لم يقبل منكم حتى تكونوا مثلنا.(20)
في مواجهة التحديات المعرفية الخطيرة أمام الفكر الديني، وفي مقابل الطوفان الثقافي العالمي الجارف الذي يقتحم كل زوايا مجتمعنا وغرف بيوتنا، ويستقطب بوسائله الإعلامية والمعلوماتية المتطورة اهتمامات أبنائنا وبناتنا، هناك حاجة ماسة لتكثيف العطاء الفكري والثقافي من قبل المرجعيات والجهات الدينية.
كما أن تطور الحياة وتقدم مستوى العلم والمعرفة يستوجب تطوير استراتيجيات الطرح الديني، وتجديد خطط التثقيف والتوجيه.
إن على الساحة الدينية أن تثبت قدرتها على مواكبة التغيرات والاستجابة للتحديات. وذلك لا يتحقق إلا بتوجيه الاهتمام نحو التحديات الكبيرة، وبتضافر الجهود نحو الأهداف المشتركة، أما الانشغال بالخلافات الجانبية والقضايا الجزئية، فإنه يشكل هروباً من المعركة الأساسية، ويضعف كل القوى الدينية.
لقد أصبحت حرية الرأي شعاراً ومطلباً لكل المجتمعات والشعوب، وأصبح الانفتاح والحوار بين الحضارات والثقافات نهجاً يتطلع إليه عقلاء البشر على مستوى العالم، فكيف سيقدم المتدينون أنفسهم أمام الآخرين، وهم لا يتحملون بعضهم بعضا، ولا يحتكمون للحوار في خلافاتهم، ولا يستطيعون التعايش فيما بينهم واحترام بعضهم بعضا؟
إن السمة الغالبة على من يمارسون الوصاية الفكرية استثارتهم لانفعالات المتدينين وتجييشيهم لعواطفهم، بعنوان حماية العقيدة والدفاع عن الثوابت والمقدسات، لكنهم لا يبذلون جهداً يناسب التحديات المعاصرة في تبيين أصول العقيدة، وكأن العقيدة تتلخص عندهم في القضايا الجزئية التي يختلفون فيها مع الآخرين، كما أن بعضهم يخلطون الأوراق في تحديد الثوابت والمقدسات، وكأنها قضايا اعتبارية، فالثابت والمقدس ما يعتبرونه هم كذلك دون مقاييس واضحة متفق عليها.
إننا بحاجة إلى تنوير العقول بالبحث العلمي والطرح المنطقي، وليس مجرد تجييش العواطف وإثارة الأحاسيس.
نسأل الله تعالى أن يمنحنا البصيرة في دينه، والعمل بأحكامه، إنه ولي التوفيق، والحمد لله رب العالمين.