الفكر بين المنهجية والتعصب
قال الله العظيم في كتابه الحكيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[1] صدق الله العلي العظيم
أعراض التعصب:
التعصب له أعراض وله مظاهر كأي مرض من الأمراض، فما هي أعراض ومظاهر مرض التعصب؟
للتعصب أعراض في المجال الفكري، وله أعراض في المجال النفسي، والمجال الاجتماعي، والسلوكي. وحديثنا إن شاء اللَّه سيكون حول التعصب على المستوى الفكري.
يمكن أن يتهم كل شخص الآخر بأنه متعصب، ولكن التعصب ليس مجرد اتهام أو نفي للاتهام، وإنما له أعراض ومظاهر يعرف بها، فمن كانت لديه هذه الأعراض وهذه المظاهر فهو مصاب بمرض التعصب على المستوى الفكري ومن كان سليماً من هذه الأعراض والمظاهر فيستطيع أن يحمد الله سبحانه وتعالى على سلامته من هذا المرض.
هناك ثلاثة أعراض ومظاهر رئيسية للتعصب على مستوى الفكر:
أولاً: الارتباط العاطفي الذاتي بالفكرة في مقابل الارتباط العقلي الموضوعي: فالمتعصب يرتبط بالفكرة ارتباطاً عاطفياً ذاتياً بينما غير المتعصب يكون ارتباطه بها عقلياً موضوعياً.
ثانياً: الانغلاق على الفكرة ورفض الانفتاح على ما عداها: فالمتعصب تكون لديه فكرة ويصر عليها ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾ [2] ويكون منغلقاً على الفكرة التي عنده ولا يقبل أن ينفتح على فكرة أخرى مخالفة ومغايرة لفكرته.
ثالثاً: رفض المراجعة والنقاش والحوار: فالإنسان المتعصب لا يقبل الحوار حول فكرته أو موقفه، ولا يقبل النقاش ومراجعة فكره ونفسه، فهذه فكرته وهو مصر عليها.
هذه أهم أعراض التعصب على المستوى الفكري فتعالوا الآن نناقش كل عرض على حده
1- الارتباط العاطفي الذاتي بالفكرة في مقابل الارتباط العقلي الموضوعي:
يجب أن نعلم أن الإسلام منهجية في التفكير قبل أن يكون فكراً، وهو منهجية في السلوك قبل أن يكون سلوكاً.
نبدأ من النقطة الثانية فهناك ممارسات وأعمال يعتبرها الإسلام أعمالاً صالحة وجيدة، لكن العمل بحد ذاته فقط ليس هو المطلوب وإنما المنهجية التي يؤدى بها العمل أيضاً يهتم بها الإسلام، فإذا كان العمل جيداً ولكن المنهجية غير سليمة وخاطئة فالإسلام لا يريد هذا العمل منك.. الصلاة عمل جيد والصوم والصدقة كذلك لكن كل ذلك لابد أن يكون ضمن منهجية جيدة، أما إذا كانت ضمن منهجية خاطئة فالإسلام لا يريدها، فمثلاً الصلاة والصوم والحج رياء والصدقة كلها أعمال غير مقبولة في الإسلام؛ لأن المنهجية خاطئة، والحديث القدسي يقول «أنا خير شريك ما كان لي ولغيري فهو لمن عمله له دوني»[3] فالعمل رياءً غير مقبول لأن المنهجية مهمة، فمثلاً فقير يأتي فتعطيه مساعدة فهذا عمل جيد لكن إذا كان ضمن منهجية جيدة، أما إذا كان ضمن منهجية خاطئة فعدم إعطائه خير من إعطائه ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾[4] فما الفائدة إن أعطيت فقيراً صدقة ومن ثم أهنته وجرحت شعوره؟! إن الله يريد العمل ضمن منهجية سليمة وصحيحة.
وليست المسألة أن يعتقد الإنسان بأفكار الإسلام، وإنما المطلوب أن يؤمن بعقائد الإسلام ضمن منهجية سليمة، فإذا آمن شخص بالأفكار والعقائد الإسلامية لكن ضمن منهجية خاطئة فالإسلام لا يقبلها، وقد ذكرنا قبل ليال في موضوع (العقيدة بين التساؤل والتشكيك) أن علماءنا يرون أن المباني الاعتقادية تحتاج إلى الدليل والتأمل والنظر، ولا يكفي فيها التقليد، فلو أن إنساناً أخذ عقائده عن طريق التقليد وإن كانت العقائد صحيحة لكن الإسلام لا يقبلها منه؛ لأن المطلوب ليس فقط أن تؤمن بالفكرة وإنما أن تكون منهجيتك في الإيمان صحيحة.
ومثال آخر هو باب الاجتهاد: فالمجتهد عندما يجتهد في مسألة ما يجب أن يسلك المنهجية الصحيحة للوصول إلى الحكم الشرعي، فإن أخطأ فليس عليه شيء.
إذاً امشِ في الطريق الصحيح، واجعل منهجيتك في التفكير منهجية سليمة، فإن توصلت إلى نتيجة خاطئة تكون مغتفرة؛ لأنك لم تتعمد ولم تقصد وبذلت كل جهدك فلا مسؤولية عليك، لكن إذا سلك الإنسان طريقاً خطأ ومنهجية خاطئة حتى وإن وصل إلى الصواب فإن اللَّه يعاقبه ويحاسبه.
فالمجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعية يجب أن يستنبطها من مصادرها الصحيحة، ولو اعتمد على التقليد وتساهل في الاستنباط واستنبط مسألة، ربما تكون صحيحة وصادفت حكماً واقعياً، فإن الله يحاسبه ويعاقبه يوم القيامة.. لماذا؟
لأنه سلك طريقاً خاطئاً.
أما إذا سلك المجتهد المنهجية الصحيحة وأفتى، وخالفت فتواه الواقع، فإن الله لا يحاسبه؛ لأن المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد، هو أجر اجتهاده؛ وذلك لأن المنهجية مطلوبة.
ولا يقبل من مجتهد من المجتهدين أن يفتي في مسألة لأنه رأى في الليل طيفاً، ولا يجوز ذلك حتى ولو افترضنا أنه أصاب الحكم الواقعي، بل يوقف يوم القيامة للحساب.. كيف أفتيت في هذه الفتوى؟ نعم هي وافقت الحكم الواقعي، لكن الطريق الذي سلكته خطأ.
يقول الإمام الصادق : «إن شرع الله أعز من أن ينال في الأحلام والمنام».
وينقل عن أحد العلماء أنه كان يناقش مسألة: ما إذا دخل أحد ما وأراد أن يصلي ورأى نجاسة في السجد أيطهر النجاسة أولاً، أو يصلي أولاً؟ وقد أدى رأي الفقيه إلى أنه يجب إزالة النجاسة أولاً ثم يصلي. وفي الليل رأى في المنام سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت له: يا فلان أنت اليوم انتهيت إلى هذه النتيجة في بحثك؟ قال: نعم، قالت له: أنت على خطأ، يجب عليه أن يصلي أولاً. وفي اليوم الثاني جاء للبحث وكرر المسألة، وأفتى بأنه يزيل النجاسة أولاً. وفي الليل رأى السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت له: ألم أقل لك البارحة: إنك على خطأ؟ فكيف تكرر المسألة؟ فقال: يا ابنة رسول الله: لو تأتين في اليقظة وتقولين لي لكان أمرك على عيني ورأسي، أما الطيف فقد نهيتموننا عن العمل بالأوامر التي في الأحلام والأطياف، تعالي في اليقظة ويكون رأيك حجة؛ لأنك معصومة، أما أن تأتي في الأطياف فكلامك ليس بحجة، ولا أستطيع أن آخذ به.
وبين قوسين حول موضوع الأطياف والأحلام، لأنه موضع ابتلاء، فما شاء الله، هناك كثير من الناس هنا يهتمون بالأطياف والأحلام، وبين فترة وأخرى وكل يوم وآخر يتصل شخص ويقول: شيخنا فسر لي حلماً، و أنا لست متخصصاً في تفسير الأحلام، كما أن الاهتمام بالأطياف والأحلام خطأ، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى اللَّه عليه وآله: «الرؤيا على ثلاثة: بشرى من اللَّه، وتحزين من الشيطان، وما يفكر فيه المرء فيراه في منامه».
بعض الأطياف بشارة من اللَّه.. استبشر بها الخير، وبعضها وخاصة الأطياف المزعجة تحزين من الشيطان ويجب أن لا تتفاعل معها.
ولشدة اهتمام بعض الناس بالأحلام تستطيع أن تعمل له يومياً ترمومتر وفق أحلامه التي يراها في الليل، فإذا رأى حلماً جيداً يستيقظ وهو فرح، ويتعامل مع الناس بشكل جيد، وإذا رأى حلماً مزعجاً ينعكس على تعامله وعلى طريقته، فتراه مكتئباً ومتأذياً، فإذا سألته: ماذا بك؟ يقول: البارحة لم أرَ حلماً جيداً.
هذا ليس صحيحاً، ومن الخطأ أن يجعل الشخص سلوكه على الأطياف والأحلام.
ورد في الحديث عن رسول الله صلى اللَّه عليه وآله:«إذا رأى أحدكم رؤيا قبيحة فلا يخبر بها ولا يفسرها»دعها وتفاءل خيراً، وفسرها أي تفسير إيجابي.
وفي رواية ونغلق بها القوس عن الإمام الصادققال: «إذا رأى أحدكم رؤيا تزعجه فليغير موقعه من النوم ثم ليقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[5] ثم يقول: أعوذ بما تعوذت به ملائكة الله المقربون وأنبياؤه المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت ومن شر الشيطان الرجيم»[6] ثم ينام على راحته ولا يفكر بذلك الحلم أبداً، ولن يصاب بسوء إن شاء اللَّه. هذه وصفة من الإمام الصادق u.
نعود إلى موضوعنا..
انتهينا إلى إن منهجية التفكير يجب أن تكون سليمة، ولا يصح أن تكون خاطئة.
ماذا تعني منهجية التفكير؟
كما أن الإنسان في الأشياء المادية يرى بعينه، فإنه في الأشياء المعنوية والفكرية يرى بعقله.
وهل تريد حين تستخدم عينيك أن ترى الأمور على واقعها، أم تريد أن تراها كما تحب أنت؟
لاشك أنك تريد أن تراها على واقعها، فإذا كنت تمشي وأمامك حفرة في الطريق تبعد عنك عشرة أمتار فأنت تريد أن تراها على واقعها، ولا تريد أن تراها أبعد بمائة متر أو أقرب خمسة أمتار؛ لأن هذا يسبب لك ارتباكاً في حساباتك. وكذا تريد أن ترى الألوان على واقعها، والأشخاص والأشياء، الواحد تريد أن تراه واحد، وهل يعجبك أنت البعيد أن ترى عيناك الواحد اثنين، أو الواحد نصفاً، طبعاً لا، تريد أن ترى الأشياء على واقعها.
هذه بالنسبة إلى نظرك، تريد أن ترى الأمور لا كما ترغب أنت أو تحب بل على واقعها.
بعض الناس يأتي إلى إشارة المرور وتكون حمراء لكنه يحب أن يراها خضراء حتى يقطع الإشارة ويمشي، لكن هذا خطأ طبعاً من الناحية الشرعية، هذا هو القوس الثاني ولا بأس بالأقواس المفيدة من الناحية الشرعية، كل المراجع والفقهاء أفتوا بحرمة مخالفة قوانين المرور، فليست المسألة أنك خالفت الشرطة أو خالفت المرور، لا، بل أنت خالفت الشرع، لماذا؟
لأنه يترتب على هذا ضرر وخطر.
وهل تعلم ما معنى أنه حرام؟!
أن لا تصلي حرام، وإذا تفطر في رمضان حرام، وإذا تسرق مال الناس حرام، وإذا خالفت قوانين المرور لا يقل عن ذلك، بل هو أشد حرمة؛ لأنك إذا أفطرت يوماً من شهر رمضان تجب عليك الكفارة وتقضي وينتهي الموضوع، لكن إذا خالف شخص قوانين المرور وأودى بحياة إنسان فكيف يستطيع أن يرجعه، والأدهى إذا أودى بحياة عدة أشخاص!
وكم نسمع عن الحوادث المرورية -أعاذنا الله وإياكم- خاصة في المنطقة الشرقية التي تعتبر على مستوى المملكة المنطقة الثانية من حيث كثرة الحوادث المرورية، ففي كل ساعة في المنطقة الشرقية تحدث ستة حوادث مرورية، وفي الأشهر الستة الأولى من السنة الماضية حدث خمس وعشرون ألف حادث في المنطقة الشرقية. وسنوياً يموت في المملكة أربعة آلاف ومائتا شخص بسبب الحوادث المرورية، وذلك مع استثناء الإصابات والأمراض.
ولذا مخالفة القوانين المرورية حرام.
إذن على مستوى النظر أنت تريد أن ترى الأشياء على واقعها لا كما ترغب أنت.
وفي عالم الأفكار أيضاً يجب أن ترى الأفكار والحقائق على واقعها لا حسب رغبتك، وبالتالي يجب أن تكون موضوعياً في النظر إلى الأمور والأفكار، وفي التعامل معها.
وقد منح الله تعالى الإنسان عقلاً، والعقل هو أهم وأفضل وأعظم ما منح الله تعالى للإنسان، ولذلك لو وجد الإنسان كل شيء ولم يجد العقل لا يفيده ذلك.. صحة وجمال ومال لكنه مجنون هل فيه فائدة؟ لا.
والإنسان إنما سخر أمور الطبيعة وترقى وتقدم وتتطور بالعقل، فالعقل هو أول شيء وهو أهم شيء، ولذلك ورد في الحديث: «أفضل ما خلق اللَّه هو العقل».
هذا العقل أعطاه اللَّه لك لكي تستخدمه في عالم الأفكار، فيجب أن تستخدم عقلك ولا تؤمن بفكرة من غير دليل، شغل عقلك.
ذكر القرآن الحكيم العقل خمسين مرة بلفظة العقل، وثماني عشرة مرة بلفظة الفكر، وست عشرة مرة بلفظة اللب والألباب، وعشرين مرة بلفظة الفقه.. إلى النظر والتبصر والتذكر والتأمل والاعتبار كلها من مهام العقل، عشرات بل مئات الآيات في القرآن تدعو الإنسان إلى استخدام عقله ﴿أفلا يعقلون) (أفلا تعقلون) (أفلا يتفكرون) (أفلا تتفكرون﴾ دعوة إلى استخدام الفكر.
أما في الروايات والأحاديث لدينا كتاب واحد كمثال وهو كتاب (ميزان الحكمة) جعت فيه النصوص بشكل موضوعي على الحروف، ذكر في مجال العقل ثلاثمائة وخمس وعشرين رواية عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وعن آله الهداة المعصومين، حول العقل واستخدامه والاستفادة منه.
وإذا أحد ما يقرأ الروايات عن العقل يأسى على أوضاع المتدينين الذين وضعوا بينهم وبين عقولهم مسافة.
الروايات تقول في الحديث عن رسول الله صلى اللَّه عليه وآله: «قوام الإنسان عقله ولا دين لمن لا عقل له»[7] ليس المعني بمن لا عقل المجنون، بل يعني الذي لا يستخدم عقله، «ولا دين لمن لا عقل له» يعني أن الذي لا يستخدم عقله ليس له دين، ولا عليك من صلاته وعبادته.
سليمان أحد أصحاب الإمام الصادقيقول: ذكرت شخصاً عند الإمام أبي عبد الله جعفر الصادقوذكرت حسن عبادته وتدينه وورعه وإذا بالإمام يلتفت إلي ويقول: «كيف حال عقله» قلت: يا بن رسول الله أصف لك تدينه وورعه فتسألني عن عقله! قال: «نعم إنما الثواب على قدر العقل»[8] .
ثواب الإنسان بمقدار عقله ومقدار استخدامه لتفكيره «لا دين لمن لا عقل له».
ويقول الإمام الكاظم:«إن لله على الناس حجتين، حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول»[9] .. العقل حجة.
وفي الحديث عن رسول الله صلى اللَّه عليه وآله: «العقل عقال من الجهل»[10] العقل مشتق من العقال، والعقال وهو الذي يعقل به الدواب حتى لا تشرد. وهذا العقال الذي يلبسه الناس الآن مشتق من هذا، فالأعرابي سابقاً كان يأتي ويربط دابته وإذا بعد ذلك حل دابته يضعه على رأسه، ومن هنا نشأ العقال.
يقول الحديث: «العقل عقال من الجهل والنفس مثل أخبث الدواب فإن لم تعقل حارت» هذه هي أهمية العقل في الإسلام.
توجد رواية جميلة تقول: (هبط جبرائيل على آدمفقال يا آدم: إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاختر واحدة دع اثنتين، فقال آدم: وما الثلاث يا جبرائيل؟ فقال: العقل والحياء والدين، قال آدم: فإني قد اخترت العقل، فقال جبرائيل للحياء والدين انصرفا ودعاه، فقالا له: يا جبرئيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيثما كان، قال فشأنكما وعرج)[11] .
العقل السليم يؤدي بالإنسان إلى ذلك، لذلك يجب على الإنسان أن يستخدم عقله.
وينبغي أن تلاحظ أن بعض الأمور يستطيع عقلك بشكل مباشر أن يتوصل لها، وبعضها يدلك على الطريق الذي توصلك إلى الحقائق. مثل بعض الأشياء التخصصية تحتاج فيها إلى متخصص، يقول لك عقلك راجع الأخصائي.
إذن لا بد للإنسان في أي فكرة تعرض عليه أن يرجع إلى عقله.
كيف يقيم العقل الأفكار؟
يقيم العقل الأفكار بالدليل والبرهان، فالقرآن الكريم ينادي: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾[12] قدموا دليلكم.
وفي آية أخرى: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾[13] أعندكم علم ودليل وبرهان؟ وإلاَّ فلا تقبل أي فكرة من دون دليل ولا برهان.
الناس والأفكار:
وراثة وتقليد:
بعض الناس يقبلون الأفكار لأنهم ورثوها من آبائهم أو عائلاتهم، هذا خطأ؛ لأن اللَّه أعطاك عقلاً، فلنفترض أن أباك أعمل عقله ووصل إلى فكرة، لكنه فعل ذلك عن نفسه لا نيابةً عنك، وينبغي عليك أنت أيضاً أن تعمل عقلك، ثم أنظر أتصل إلى نفس النتيجة أم لا.
ولذلك ينعى القرآن على المشركين الذين يقولون: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)[14] ، وفي آية أخرى: (مُقْتَدُون﴾[15] .
ذاتية وألفة:
وبعض الناس ينسجمون مع بعض الأفكار ويؤلفوها وتصبح جزء من شخصيتهم، ثم يصبح من الصعوبة أن يتنازلوا عنها، فكيف يتخلى عن فكرة اقتنع بها منذ سنين؟
نعم إذا كان إنسان موضوعياً متعقلاً فلا مانع عند أن يتخلى عن فكرة اقتنع بها منذ سنين، لأنه تبين له خطؤها.
مصلحة ومنفعة:
وبعض الناس يرتبطون بالأفكار ارتباطاً منفعياً ومصلحياً، فيرى الفكرة التي يستفيد منها ويأخذها. وهو في الواقع يخدع نفسه ويضللها.
يجب على الإنسان أن يكون موضوعياً، لا يعتنق الفكرة على أساس منفعة أو مصلحة.
ينقل أحد علماء الزيدية في اليمن -التي أكثرها من الزيدية، والزيدية مذهب متشعب من مذاهب التشيع وهم يختلفون عن الأثني عشرية، وهذا ليس مورد بحثنا- كما هو معلوم أن الزيدية يقولون في آذانهم (حي على خير العمل) مثلنا ويُعلن ذلك في الإذاعة والتلفزيون إلى الآن، فظهرت جماعة بشكل أو بآخر ضد (حي على خير العمل) فدخل بعضهم على المؤذن في المسجد، وهو يعرف أنهم تغير رأيهم بسبب مطامع ومصالح وليس بتفكير وتعقل، فجلسوا ليقنعونه بترك قول (حي على خير العمل) فالتفت إليهم وقال: لو يعطونني المال الذي يعطونكم لتركت (حي على الصلاة) وليس (حي على خير العمل) فقط.
هذا هو التعامل المصلحي، فيعتقد الإنسان بالأفكار بمقدار ما تعود عليه من نفع. وليس ذلك صحيحاً، بل يجب عليه أن يتعامل مع الإفكار تعاملاً موضوعياً وأن يُعمل عقله ليرى أحق هذا أم باطل، أصحيح هو أم خطأ؛ بشكل موضوعي لا مصلحي.
حشر مع الناس:
بعض الناس أيضاً تأسرهم حالة التوافق الاجتماعي، فيخضع لكل فكرة سائدة في مجتمع، فلا يخالفها لكيلا يصبح شاذاً في المجتمع، بما أن الناس يمشون على هذه الطريقة وهذه الفكرة فيقول: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾[16] وأنا مع الناس.. وهذا ما ينهى عنه الإسلام، فهو يقول: لا تكن إمعة، ولا تقل: حشر مع الناس عيد.. أنت مسؤول يوم القيامة عن معتقداتك وأفكارك. لذا يجب عليك أن تفكر وتقيم، فقد تكون فكرة سائدة لكنها ليست صحيحة (رب مشهور لا أصل له، ورب متأصِّل لم يشتهر).
التقديس:
بعض الأحيان تقديس مصدر الفكرة يجعل الإنسان يقبل الفكرة، وليس عندنا كلام لا يرد إلا كلام الله وكلام المعصوم سلام الله عليه، ما عدا ذلك لا عليك من فلان، اجلس وفكر وناقش.
بعض الأحيان تتناقش مع شخص لا دليل عنده ولا برهان فيقول: كلامك صحيح لكن ماذا أفعل فلان قال.. مقولة (فلان قال) لا تفيدك يوم القيامة.
جاء الحارث بن حوط إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبيسأله بعد قضية الجمل أو أثناء قضية الجمل قال: يا أمير المؤمنين أتراني أعتقد أن أصحاب الجمل على ضلالة، طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة زوجة رسول الله أهؤلاء مخطئون؟!
فأجابه الإمام:«يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك، اعرف الحق تعرف من أباه، واعرف الباطل تعرف من أتاه، أعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال».
أنت عندك مبادئ وعندك مقاييس وعندك عقل يجب أن تفكر به، فكل المسلمين يعتقدون أن الموقف كان خاطئاً وأن أصحاب الجمل (طلحة والزبير والسيدة عائشة) كانوا مخطئين، لكن فيما بعد يقولون إنهم تابوا إلى الله تعالى، وإلا فالموقف كان خاطئاً.
وأمير المؤمنينيوجهنا إلى أننا يجب أن نفكر لا ونقبل الفكرة لأن مصدر الفكرة مقدس دون تأمل أو تفكير.. هذا خطأ.
في هذه النقطة الأولى نكتفي بأنه يجب على الإنسان أن يتعامل مع الأفكار تعاملاً موضوعياً عقلياً عبر الدليل والبرهان والمنطق، لا تعاملاً عاطفياً وذاتياً مصلحياً هذه هي الصفة الأولى.
2- الانغلاق على الفكرة:
الإنسان المتعصب ينغلق على فكرته، ولا يقبل أن ينفتح على الفكرة الأخرى، وهذه من أفكار وصفات المتعصبين، والإنسان المؤمن الواعي كما تقول الآية الكريمة ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾
القول: (ال) للجنس، والمراد جنس القول مهما كان ذلك القول، المؤمن يسمعه ويحتكم إلى عقله ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
هذه هي المنهجية الصحيحة ومن يمشي وفق هذه المنهجية يهتدي ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.
بينما الكفار والمشركون كانوا يرفضون نبي الله نوحكما يتحدث عنه القرآن الحكيم: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾[17] .
تقول بعض الروايات: إنهم كانوا يجعلوا أصابعهم في آذانهم لكن منظر نبي الله نوح وصدقه كان يؤثر في بعضهم، حيث يقف بكل أدب ولباقة واحترام حريصاً على هدايتهم ومصلحتهم، فرأى كبار الكفار أن وضع أصابعهم في آذانهم لا يكفي، بل ينبغي أن يغطوا وجوههم لكيلا يروه ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾.
وفي آية يقول اللَّه تعالى عن المشركين: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾[18] فإذا جاء النبي صلى اللَّه عليه وآله يريد أن يقرأ القرآن يصفقون ويصفرون حتى لا يسمع الناس القرآن من النبي صلى اللَّه عليه وآله.
هذا من التعصب والانغلاق، والإنسان الذي يريد الحق والحقيقة ينفتح على الأفكار الأخرى ولا يخاف منها.
يقول أحد العلماء: إن الإسلام لديه سياسة الأبواب المفتوحة على المستوى الفكري؛ لأنه واثق من فكرته وعقيدته.
الدين الواثق من نفسه لا يخاف من إطلاع أبنائه على الأديان الأخرى، والمذهب الواثق من نفسه لا يخاف من إطلاع أبنائه على المذاهب الأخرى.
من هو الذي ينغلق ومن هو الذي يخاف ويمنع كتب المذاهب الأخرى؟
هو الذي لا ثقة عنده برأيه ودينه ومذهبه وفكرته، فيخاف إذا جاء الفكر الآخر، وإذا جاءت الكتب الأخرى التي تحمل آراءً أخرى يتأثر بها جماعته وبعض أتباعه، فمن أجل ألا يتأثروا يمنعهم من الاطلاع على الرأي والفكر الآخر.
هذا خلاف منهج القرآن، منهج القرآن: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ هنا ثقة بالفكر والعقيدة، اطلع على أي رأي وعلى أي فكرة، نعم هناك ضوابط معينة حول كتب الضلال وأفكار الضلال لكن الأصل الانفتـاح ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ كل القول ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
بل يأمرنا الأئمة عليهم السلام بأن لا نمتنع من أخذ الحق والحقيقة ولو من الكفار. فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالبيقول:«خذوا الحكمة ولو من المشركين فإنكم أحق بها من أهلها». فمن الممكن في مسألة أو قضية أو موضوع معين يكون لهم فيه رأي جيد تأخذه وتستفيد منه.
وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين: «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أين وجدها ولو من المنافق».
لذلك فإن الإنسان المؤمن لا يكون عنده انغلاق فكري، لأن الذي يكون عند انغلاق فكري لا ثقة عنده برأيه وعقيدته وفكرته.
ومع الأسف هذه حالة منتشرة في المجتمعات المتخلفة فإذا حصل اختلاف في الرأي يحرم كل طرف كتب الطرف، والاستماع إليه، والحضور في مجلسه، هذا انغلاق وهذا خلاف منهج الإسلام.
الثاني من مظاهر التعصب هو: الانغلاق على الفكرة وعدم الانفتاح على ماعداها
3- رفض المراجعة والمناقشة والحوار:
الثالث من مظاهر التعصب الفكري: رفض المراجعة والمناقشة والحوار:
والإنسان المؤمن منهجيته لا تمنعه من أن يراجع فكرته بين فترة وأخرى ويتأملها ويتناقشها ويتحاور حولها مع الآخرين.
الإسلام يأمر بالحوار ويفتح باب الحوار ويشجع عليه: تحاور مع الآخرين وتناقش معهم وكن موضوعياً وليكن منهجك هو التحاور مع الآخرين وإن اختلفوا معك في الدين: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[19] تحاور بالمنطق وبالأسلوب السليم الصحيح، فإن الإنسان الواثق من نفسه الذي ينشد الحقيقة لا مانع لديه من أن يراجع أفكاره وأن ينفتح على الطرف الآخر ويتحاور معه. أما الإنسان المتعصب فلا، ولا مجال لديه للتناقش والحوار، يقول كلمة والأخرى يقول: شرك وكفر، فهو غير حاضر للتناقش والتحاور، وما ذلك إلا لنقص في الدليل والبرهان، تحاور كما كان رسول الله صلى اللَّه عليه وآله يدعو الكفار والمشركين ليناظرهم ويتحاور معهم. هذا هو منهج الإسلام وهذه هي منهجية التفكير في الإسلام، المنهجية السليمة التي تقتضي هذه الأمور.
هذه صفات التعصب وسماته لذلك نرى أن أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم دائماً يدعون الناس إلى التفكير والتأمل والانفتاح على الرأي الآخر، ومناقشة الرأي الآخر حتى في أحلك وأصعب الظروف.
من شواهد ذلك الإمام سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين، فكم مرة كان يخطب في جيش بني أمية في كربلاء، فماذا كان يقول لهم؟
كان يدعوهم للتفكير وللمراجعة والتأمل وإعادة النظر؛ لأن الإماميعلم أن الموقف الذي اتخذوه إنما هو نتيجة منهجية خاطئة في تفكيرهم لذلك قال لهمفي إحدى خطاباته: «انسبوني من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي» دعاهم للتفكير أولاً ولم يقل لهم رأساً: إنكم على باطل، وأنا على حق.. أدعوكم للتفكير: فكروا وانظروا وراجعوا أنفسكم وتأملوا. لكن أكثرهم قد طبع الشيطان على قلبه كما قال الإمام الحسين(فأنساهم ذكر الله).
أما المؤمنون الذين لديهم منهجية الانفتاح ومراجعة الأفكار مثل الحر بن يزيد الرياحي سلام الله عليه كما تحدثنا عنه وأمثاله فقد فكروا وتأملوا واهتدوا إلى الحق.
تقول الروايات حينما استنصتهم الإمام الحسين، لم ينصتوا للإمام الحسين، ولغوا عند كلامه فمنهم من صوّت ومن صفق ومن زمر حتى لا يسمعوا الإمام الحسين إلى أن جاء حبيب بن مظاهر الأسدي سلام الله عليه ووبخهم وعاتبهم وعنفهم: (ويحكم أما تستحون، الحسين ابن بنت رسول اللَّه.. اسمعوا منه مقالته لعلكم تهتدون).