شخصية الإنسان بين الانشراح والتشنج
قال الله العظيم في كتابه الحكيم: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾[1] صدق الله العلي العظيم.
على الإنسان في هذه الحياة مهام يجب أن يؤديها تجاه نفسه وتجاه المجتمع.. أداؤه لهذه المهام يستلزم منه السعي وبذل الجهد. وهو لا يعيش وحده بل يعيش في مجتمع، مع أناس آخرين يختلفون في أفكارهم، توجهاتهم، مصالحهم، أمزجتهم، مما قد يسبب نوعاً من التضارب بين بعضهم البعض هذا ناحية، ومن ناحية أخرى طبيعة الحياة فيها مشاكل وصعوبات وعقبات، طبيعة الحياة هكذا، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾[2]
ماذا يعني كبد؟
يعني المعاناة الشديدة، التعب الشديد.
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ﴾[3] والكدح هو السعي بعناء.
فطبيعة الحياة فيها مشاكل، في الأصل الإنسان جاء إلى هذه الحياة حتى يواجه المشاكل من أجل أن تصقل شخصيته ويثبت كفاءته وجدارته إلى مكان آخر، أنت لم تأت للدنيا حتى تبقى، بل أتيت حتى تثبت صلاحيتك إلى دار فيها راحة ونعيم ولا مشاكل فيها، ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ﴾[4] .
مثلاً شخص يريد أن يأخذ رخصة قيادة سيارة، هل يمتحن في شارع عريض ومرتب؟ كلا. بل يؤخذ إلى الأماكن التي تحوي تعرجات ومنعطفات حتى يمتحنوه، ولو احتج وقال: خذوني إلى شارع عريض. الشارع الواسع ليس مكاناً للامتحان.
في الأصل الله جاء بنا إلى هذه الحياة ليمتحننا وطبيعة الحياة فيها مشاكل وصعوبات وعقبات، فكيف نتعامل مع هذه الصعوبات والعقبات والمشاكل؟
الناس الذين يفكرون أنهم يجب أن يرتاحوا في حياتهم هؤلاء متوهمون لا يعرفون طبيعة الحياة.
يقول الإمام زين العابدين لأحد أصحابه: «اتق الله وأجمل في الطلب ولا تطلب ما لم يخلق فإن من طلب ما لم يخلق تقطعت نفسه حسرات ولم ينل ما طلب، ثم قال وكيف ينال ما لم يخلق فقال الرجل وكيف يطلب ما لم يخلق فقال: من طلب الغني والأموال و السعه في الدنيا فإنما يطلب ذلك للراحة و الراحة لم تخلق في الدنيا و لا لأهل الدنيا إنما خلقت الراحة في الجنة و لأهل الجنة و التعب و النصب خلقا في الدنيا و لأهل الدنيا»[5] في الجنة لا يوجد تعب ولا مشاكل، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾[6] لا تعب في الجنة أبدا فلا دراسة ولا امتحانات أو قبول في الجامعة ولا بحث عن وظيفة ولا مشاكل بناء بيت ولا بحث عن زوجة أبدا الشغل الوحيد أن يشتغل الإنسان مع حور الجنة ولا يوجد أي شاغل آخر حتى كلمة مزعجة لا تسمعها في الجنة ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا﴾[7] كل الملائكة مصطفون يحيونك ويرحبون بك ولكن أثبت كفاءتك لدخول الجنة. كيف تثبت الإنسان كفاءته للجنة؟
عن طريق مواجهة ابتلاءات هذه الحياة.
هنا نجد نوعين من الشخصية:
1- المنشرحة
2- المتشنجة
ما هو تعريف التشنج؟
لغة: يقول ابن منظور في لسان العرب: الشنج هو تقبض الجلد والأصابع وغيرهما. يعني تصبح الأصابع مثلاً عصية لا يستطيع تحريكها ولا بسطها. والطب أيضا يعرف التشنج على أنه حالة مفاجأة لا إرادية تصيب العضل فتمنعه من أداء وظيفته مع وجود ألم شديد. وعلماء النفس يعرفون التشنج بأنه حالة يفقد فيها الإنسان الإدراك الواعي الشعوري ويصاحبها تقلصات في العضلات وتشنجات في الجسم. وهي وسيلة هروبية حينما تعجز الذات عن مواجهة ضغط من الضغوط أو موقف من المواقف بطريقة واعية وسليمة.
التعريف الأخلاقي والاجتماعي للتشنج هو :الانفعال الزائد عن الحد في مواجهة الأحداث والتعامل مع الأشخاص دون تفكير موضوعي، حينما ينفعل الإنسان تجاه أحداث أو في التعامل مع شخص دون تفكير موضوعي فيخرجه انفعاله عن حده.. هذا ما نطلق عليه تشنجاً.
إذاً نوعان من الشخصية: متشنجة ومنشرحة.
منشرحة من انشراح الصدر، وانشراح الصدر يعني سعة الصدر، وهو عبارة عن استيعاب الظروف والمشاكل المختلفة، ومواجهة الصعوبات.. هذا ما يطلق عليه سعة الصدر أو حسب تعبير القرآن الكريم (شرح الصدر).
الآية الكريمة تقول: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ للإسلام كاملاً: كمنهج وكتعاليم وكأخلاق وكسلوك.. أن يكون صدره واسعاً في مواجهة الحياة لالتزامه بالإسلام في مختلف مجالاته. ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾ الإنسان هو صاحب القرار، ولا اللَّه يجبر الإنسان على الهدى أو الضلال، فالإرادة هنا ليست بمعنى الجبر ولكن حينما يختار الإنسان طريق الهداية يفتح اللَّه له المجال ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[8] .
﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ﴾ الإنسان يختار طريق الضلال ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ لا يقدر أن يواجه المشاكل ولا الصعوبات ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾ هذا الكلام كان في ذلك الوقت الذي لم يكونوا فيه قد اكتشفوا الأكسجين ولا حدود الضغط الجوي ولا خروج الإنسان عن الضغط الجوي، القرآن في ذلك الوقت يقول ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾؛ فالإنسان كلما صعد في السماء يقل الأكسجين فيشعر بالاختناق وبضيق في التنفس، كذلك الإنسان الذي لا يلتزم بمناهج الإسلام تكون حياته كذلك، ليس لديه سعة صدر.
وفي آية أخرى أول نعمة يمتن بها الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾[9] ، إن الله سبحانه وتعالى منحه سعة الصدر، وهذا مرادف لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[10] .
نبي الله موسى حينما حمّله الله مهمة ضخمة كبيرة ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾[11] ، ماذا طلب النبي موسى لإنجاز هذه المهمة قال: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾[12] لأنه من دون سعة الصدر لا يستطيع الإنسان أن يؤدي المهام الكبيرة ويواجه المشاكل الضخمة.
ما هي مظاهر وأعراض التشنج في شخصية الإنسان ؟
أولاً: السلبية والتشاؤم:
الحياة فيها أحداث جيدة وأخرى سيئة، فيها الحلو والمر، بعض الناس لا يتذوقون الحلو من الحياة، دائماً في حلوقهم مرارة.
صحيح أن الإنسان يجب أن يقرأ الأحداث، وبعضها يوجب التفاؤل وبعضها يوجب التشاؤم، لكن الشخصية المعتدلة توازن.. كل حدث تقرؤه قراءة موضوعية وتضعه في خانته. بينما الإنسان المتشنج ينظر إلى الأمور دائماً نظرة سلبية.. نظرة تشاؤمية.
وهناك روايات وأحاديث تنهى عن حالة التشاؤم واليأس، فالإنسان يعيش على الثقة بالله سبحانه وتعالى والأمل به عز وجل: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾[13] ؛ فإذا صادفتك مشاكل أو مصاعب لا تجعلها تفقدك النظرة الموضوعية؛ فتنظر لكل شيء بسلبية وتشاؤم.. هذا خطأ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾[14] .
ويعلمنا رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم في واقعة الخندق درساً عظيماً في هذا المجال، فالمدينة محاصرة بالكفار، وليس للمسلمين قدرة عسكرية آنذاك، فحفروا خندقاً حول المدينة يتحصنون به من هجوم الأعداء، وفي أثناء الحفر واجهت المسلمين صخرة عظيمة لم يستطيعوا تكسيرها بمعاولهم، فلجؤوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم.. يقول الإمام أمير المؤمنين : «كنا إذا اشتد البأس وحمي الوطيس اتقينا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله ولذنا به»[15] .. تقول الروايات في السيرة النبوية أنه عندما ضرب الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم الضربة الأولى إذا به يبتسم ويقول: «رأيت قصور الشام وأن الله سيعطينا مفاتيح الشام»، وفي الضربة الثانية يقول: «إن الله سيعطينا مفاتيح اليمن، كأني أرى قصور صنعاء»، وفي الضربة الثالثة يقول: «كأني أرى قصور الروم، أو فارس» كما في بعض الروايات[16] .
المسلمون محاصرون لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم فيحفرون خندقاً ليتحصنوا به لكن الرسول صلى اللَّه عليه وآله يبدي بارقة الأمل، بل عنده أكبر الأمل والثقة بالله سبحانه وتعالى.
وبعض الناس تكون نظرتهم نظرة تشاؤمية حتى عندما يقرؤون التاريخ ينظرون إليه بروح تشاؤمية وبروح مأساوية؛ مثلاً: أئمتنا أئمة أهل البيت عليهم السلام عاشوا في هذه الحياة 250 سنة ظاهرين بين الناس قبل غيبة الإمام الثاني عشر عجل الله فرجه، في هذه المدة (250 سنة) قاموا بإنجازات عظيمة وانتصارات كبيرة؛ بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله أربعة أشخاص فقط كانوا مع علي بن أبى طالب لكن لاحظ كيف أصبح هذا التيار الواسع العريض في الأمة الإسلامية، التلامذة الذين رباهم أهل البيت، الأفكار والمعارف التي نشروها، التأثير الفكري والاجتماعي والسياسي في حياة الأمة التي قاموا بها ؛ لكن بعض الناس يطيب لهم ذكر المآسي فقط وكأن حياة أهل البيت مآسٍ فقط.
صحيح أن في حياة أهل البيت كثير من المآسي ولكن هناك الكثير أيضاً من الانتصارات والإنجازات والمكاسب والتقدم والنمو.. ولكنا تعودنا فقط على اجترار المآسي ولذلك تلاحظ أن احتفالنا بالمناسبات السارة أقل من المناسبات المحزنة، نحن عندنا ذكريات وفيات الأئمة وعندنا ذكريات مواليد الأئمة لكن يبدو لي أن احتفاءنا بالوفيات أكثر من احتفائنا بالمواليد.. حتى قيل إن أحد الخطباء كان يقرأ في إحدى البلدان فكان يتحدث عن قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لمرحب، وجاء في القصة أن الأمام رفع السيف وضرب مرحب وكان أحد الحاضرين شيخاً كبيراً نائماً في المجلس، قال الخطيب: رفع الإمام السيف وضرب مرحباً على رأسه، انتبه الشيخ من نومه على صوت الخطيب وهو يقول: وضربه على رأسه.. فصاح وا إماماه وا سيداه. فضحك الناس عليه وقالوا: كيف تقول وا إماماه والإمام هو الذي ضرب مرحباً، فقال: أنا سمعت (ضرب بالسيف) يعني ضرب بالسيف على إمامنا.
هذا تعبير عن نمط معين في الشخصية وفي الثقافة.
الإنسان يجب أن يقرأ الأمور قراءة موضوعية، قراءة واعية، فيكون موضوعياً تجاه الأشياء التي تحتاج إلى حذر، والأشياء التي توحي بالتفاؤل يتفاءل بها.
لإن الإنسان إذا تشاءم تصبح عنده حالة إحباط لا يتحرك، وبعض الناس يظهرون حالة التشاؤم كمخرج لعدم تحملهم مسؤولية العمل، فإذا قلت لهم: تحركوا؛ يقولون: كيف نتحرك؟ الدنيا سوداء أمامنا وقاتمة،.
فحالة التشاؤم في بعض الأحيان إنما هي تبرير للتقاعس والتخلي عن المسؤولية
ثانياً: الحماس للهدم بدل البناء:
من أعراض التشنج في الشخصية التحمس للهدم أكثر من البناء.. كيف ذلك؟
إذا وجد نقداً في موضوع من المواضيع أو مشكلة من المشكلات تلاحظه يشارك بحماس، ولذلك تجد الكثير من الجلسات والمجالس فيها تشريح للمشاكل.. نحن عندنا هذه المشكلة، وهذه القضية، وحدث كذا، وأصبح كذا، حتى إذا انفتح المجال كل واحد منهم يفتح إذاعته ويزيد من الشعر بيتاً، ويضع ستة فوق الستين. وإذا اقترح أحد عليهم وقال: يا إخوان هذا الكلام الذي تقولونه حول هذه المشكلة صحيح، لكن ما الحل؟ ما العلاج؟ كيف نواجه هذه المشكلة؟ وكيف نحلها؟
إذا طرحت عليهم هذا السؤال كأنما على رؤوسهم الطير.. ويكون جوابهم لا يحلها إلا فرج الله، وانتهى الموضوع وأغلق
نحن كما نتكلم عن المشاكل والقضايا فيأتي هذا بقصة وهذا يقول حصل كذا.. لماذا لا نجلس أيضاً ونعتصر أذهاننا من أجل ابتكار الحلول، وابتداع طرق الخلاص؟! ونتساءل: كيف نواجه هذه المشكلة؟ وكيف نتخلص منها؟
إن من مظاهر التشنج أننا نتحمس في تفكيرنا إلى موضوع الهدم.. الهدم بمعناه الشامل حتى في القضايا، فإذا حصلت قضية مثيرة، كأن يحصل إعتداء أحد على أحد آخر، أو شخص أهان المذهب، أو تكلم حول الطائفة.. نلاحظ أن هذه القضية هي ما تشغل الناس وتكون الشغل الشاغل لهم، وإن اقترحت عليهم عملاً إيجابياً حول مبدئنا أو مذهبنا أو مجتمعنا؛ تلاحظ أن التجاوب ضعيف، ولكن ما أن تطرح عمل فيه حماس، فيه إثارة حتى ترى الاستعداد لديهم، بعكس العمل الذي يحتاج إلى هدوء أو يحتاج إلى حكمة؛ لأنه يتطلب نفساً طويلاً.
أحد المفكرين العرب يقول: إن بإمكانك أن تستثير الألوف من الناس لكي يخرجوا بمظاهرة يقطعون فيها عدة كيلومترات تحت حرارة الشمس، لكن هل تستطيع أن تقنع أحداً منهم بتنظيف عدة أمتار أمام باب بيته؟!
لذلك ترى بعض الفترات تمر على المجتمع فيها حالة حماس وتفاعل وتواجد، وإذا تغيرت الظروف وأصبحت الحالة ليست حالة حماس بل حالة بناء وعمل يحتاج إلى مواصلة ونفس طويل قد لا تجد متفاعلين ومتجاوبين.
ثالثاً: سوء الظن بالآخرين وتلمس الثغرات والنواقص في أعمالهم:
من المسلم به أن الناس الذين تعيش معهم في المجتمع بشر مثلك لديهم أخطاء كما لديك أخطاء. ولكن لدى بعض الناس عادة سوء الظن بالآخرين؛ فإذا نهض شخص ما بمشروع، أو طرح برنامج عمل، أو فكرة ما، أول ما يواجهه من الناس سوء الظن به وتتبع نواقصه.
ولا خلاف في إن الكمال لله وحده، ولا يوجد شخص كامل، ولا عمل كامل.
نعم أنت تستطيع أن تنقد نقداً بناءً، والنقد البناء يستلزم أن تذهب إلى الجهة المعنية التي تقوم على العمل وتناقشهم.. بينما بعض الناس الذي لديهم حالة تشنج يتحدثون من ورائهم. وهذا ملحوظ في بعض الأجزاء من مجتمعاتنا. مثلاً عندنا مؤسسات عاملة في المجتمع، مؤسسات أهلية اجتماعية، جمعيات خيرية، لجنة كافل اليتيم، مهرجان زواج جماعي، صندوق زواج خيري، ناد ٍ رياضي، هيئة للعزاء.. هذه الأنشطة موجودة في المجتمع ويقوم عليها أناس من مجتمعك وهم ليسوا معصومين، وليسوا كاملين، والكمال لله، فيحتمل وجود نقص في علمهم. والإنسان المخلص إذا رأى نقصاً في مشروع اجتماعي يذهب ويوجه النصيحة والنقد إلى الجهة المعنية، يذهب لهم ويقول: أنا عندي ملاحظة، انتقاد، إشكال على عملكم، اذهب إلى الإدارة وناقش معها جزاك الله خيراً، فهذه نصيحة يمكن أن يستفيدوا من ملاحظتك ومن نقدك. لكن البعض من الناس لا يعمل بهذه الطريقة، وإنما ينتقد فقط..
هذه مؤسسات أهلية، اذهب أنت ورشح نفسك، أو ادخل في مجلس الإدارة، أو في لجنة من اللجان؛ لكنه غير مستعد للعمل ولا يفسح المجال لغيره، وحسب المثل الشعبي: (لا رحمك ولا خلاّ رحمة الله تنـزل عليك).
هذا لا يصدر عن شخصية سوية. ويجب على الإنسان إن كانت لديه ملاحظة ما أن يذهب إلى الجهة المعنية لإبداء ملاحظته
ثم إنه حتى تجاه بعضنا البعض على الإنسان المسلم أن يسد عيوب أخيه المسلم.
جاء رجل إلى الرسول محمد صلى اللَّه عليه وآله فقال: يا رسول الله أريد أن يستر الله عليّ عيوبي، فأجابه الرسول صلى اللَّه عليه وآله: «استر عيوب إخوانك يستر الله عليك عيوبك».
وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله: «من ستر عيباً لأخيه المسلم ستره الله يوم القيامة».
ماذا يعني ستر عيب أخيك المسلم؟ يعني أن لا تشهّر به في المجالس، فإن من لا جرأة لديه لأنه لا يملك نقدًا حقيقيًا يتكلم على الشخص من وراء ظهره، والمفروض أن يذهب إليه ويتكلم معه ويخبره بنقده، ولكنه لا يفعل ذلك، وهذا دليل على أنه ليس لديه نقد ولا ملاحظة وإنما لديه عُقد شخصية، حسد أو ما أشبه وهذا خطأ.
يقول الإمام الحسن بن علي في وصيته المشهورة حول اختيار الإخوان حينما قال له جندب ابن جنادة: أوصني، قال: «وإذا نازعتك إلى صحبة الإخوان حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك وإذا خدمته صانك وإذا احتجت معونة أعانك …» إلى أن قال: «وإن بدت منك ثلمة سدها، وإن رأى منك حسنة عدها»[17] ؛ فإذا رأيت أمراً إيجابياً من أخيك المسلم فاشهره واطرحه في المجالس بدلاً من الأشياء السلبية.
يقول أحد الأدباء: بعض الناس مثل النحل، وبعضهم مثل الذباب، النحل يذهب إلى الأزهار ويمتص منها الرحيق، والذباب يذهب إلى الأوساخ والقاذورات؛ فبعض الناس يذهب إلى العيوب ويقع على الأخطاء والثغرات، ولا يذهب إلى نقاط القوة والأشياء الإيجابية في إخوانه وأبناء مجتمعه.
رابعاً: القسوة في ردة الفعل تجاه المثيرات:
تحصل للإنسان إثارات فكيف يرد عليها؟ وكيف يتعامل مع أخطاء الآخرين تجاهه؟
بعض الناس يتعامل مع الآخرين بقسوة حينما يخطئون في حقه أو إذا كان خطؤهم عاماً، وبعض الناس يمتصون الخطأ مع إخوانهم المؤمنين، التزاماً بحالة التراحم التي وصف القرآن الكريم المسلمين الأوائل بها، فيقول ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾[18] رحماء من الرحمة، والرحمة متى تكون؟ تكون في حالة الضعف سواء كان الخطأ تجاهك أو كان الخطأ عاماً.
وجاء في الروايات أن رجلاً في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله شرب الخمر فجاؤوا به إلى الرسول صلى اللَّه عليه وآله فأقام عليه الحد، ولما خرج وقع الجالسون فيه.. قال أحدهم: اللهم العنه، وقال الثاني: اللهم اخزه. وإذا برسول الله صلى اللَّه عليه وآله يغضب ويقول:«لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم» فقالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا اللهم اهده اللهم أصلحه اللهم اغفر له».
هكذا يؤدبنا الإسلام كيف نتصرف تجاه أفعال الآخرين، وإن برز من الطرف الآخر خطأ.
بعض المجتمعات قاسية على بعضها، فإذا أخطأ شخص لا يساعدونه حتى ينتشلوه من الخطأ، بل يضربوه على رأسه أكثر حتى ينغمس أكثر في الخطأ، وهذه قسوة، فمن الواجب أن نساعد بعضنا بعضا وأن ينتشل بعضنا بعضا حينما يخطئ أحدنا. والخطأ وارد أن يصدر من كل إنسان.. فهل تضمن أنك لن تخطئ، ولن يصدر منك عيب؟!
قال الشاعر:
فصنها وقل يا عين للناس أعين
وعينك إن أبدت لك معائباً
فكلك عورات وللناس ألسـن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
إذا تعودنا على هذا الخلق الإسلامي النبيل، كل واحد منا يساعد الناس على تجاوز أخطائهم. والروايات تقول «من ستر على أخيه ستره الله» وليس الأمر هنا فقط قضية غيبية، بل هي حالة اجتماعية بأن يتعود الناس على أن لا تكون ردود أفعالهم تجاه أخطاء بعضهم حادةً، بل يجب أن نتحكم في ردود أفعالنا.
كان مالك الاشتر رضي اللَّه عنه في أحد الأيام يمشي في أحد أزقة الكوفة -وهو القائد العام لجيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، لكنه طبعاً لا يضع نجوماً على كتفيه، ولا يلبس زياً عسكرياً، ولا يوجد موكب يمشي أمامه ووراءه، إنه يمشي مثل بقية الناس- فسخر من مالك الأشتر وهو لا يعرفه، فسكت مالك الأشتر ولم يقل له شيئاً، فلما رأى أنه لم يستطع استفزازه رفع بعض الحجارة وأخذ يرميها عليه، لكن مالك الأشتر لم يعره انتباهاً، ولما رآه الناس ذلك، اقبلوا عليه يتراكضون قائلين: ما أنت فاعل؟ قال: رأيت شخصاً يمشي أمامي فتصرفت هذا التصرف، قالوا له: هل تعرف من هذا الشخص؟ إنه قائد القوات العامة لجيش أمير المؤمنين ، هذا مالك الأشتر، فخاف الرجل، وقال: ماذا أفعل؟ قالوا له: اذهب بسرعة واعتذر منه. فذهب يركض سائلاً عنه فقالوا له: إنه دخل المسجد؟ فدخل خلفه فرآه يصلي، فجاء أمامه يبكي، فقال له: ما بك؟ قال: جئت أعتذر إليك عما فعلت وأنا جاهل بك، فقال له: لا بأس عليك. أتعلم أني دخلت المسجد لأصلي ركعتين وادعو الله أن يغفر لك.
هذا الإيمان.. هذا ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ هذا الإسلام الحقيقي.
مرّ الإمام الحسن ، وفي رواية الإمام الباقر ، على شخص يسبه، فلم يلتفت إليه، أراد أن يستثير الإمام، الإمام لم يلتفت له وسكت عنه فقام واقفاً ومسك الإمام من كتفه فقال إياك أعني فقال له الإمام: «وعنك أغضي.» هذه هي الروح الإيمانية
الفيلسوف العلامة نصير الدين الطوسي رحمة الله عليه، هذا فيلسوف محقق عالم كبير، يوماً من الأيام كان جالساً في مجلسه مع جماعة من تلامذته فجاء شخص يحمل له رسالة، وقال له هذه رسالة من فلان يطلب منك أن تقرأها في مجلسك أمام الناس، فقرأها فوجد فيها (يا كلب بن الكلب) يخاطب بهذا نصير الدين الطوسي، وضعها إلى جانبه وقال: هذا يقول: أنا كلب بن كلب؛ ولكن يبدو أنه مشتبه في كلامه؛ لأنه يوجد فرق كبير بيني وبين الكلب:
أولاً: الكلب يمشي على أربع قوائم وأنا أمشي على قائمتين:
ثانياً: الكلب نابح وأنا ناطق ضاحك.
ثالثاً: الكلب بشرته مغطاة وأنا بشرتي ظاهرة.
رابعاً: الكلب أظافره طويلة وأنا أظافري عريضة.
واتى بالفروق.. ثم قال بناءً على هذا الكلام فهنا اشتباه. وقال لحامل الرسالة: احمل له الرسالة وسلم عليه وقل له: أنت مشتبه في كلامك وبِيِّن له الفروق التي ذكرتها لك.
هذا الأمر يحتاج هدوءاً وسكينة وروحاً إيمانية حتى يتجاوز الإنسان عن الأخطاء.
وذاك يقول: إن قلت لي كلمة أجبتك بعشر.. قال له: إن قلت لي عشراً لم أجبك بكلمة.
الإنسان يجب أن يتجاوز عن الأخطاء، بينما ترى الإنسان المتشنج والمجتمع الذي تسود فيه حالة التشنج بسبب أبسط الأشياء تتولد فيه المشاكل.. والمشكلة إذا وجدت في مجتمع متشنج لا تحل، ومن المؤسف بعض الأحيان أن تحدث هذه الحالة بين الأرحام والأقرباء، بين الأب وولده، فيقاطع الابن أباه ويعصيه ويعق والديه فترة من الزمن، وفي بعض الأحيان الأب أيضاً تصبح عنده ردة فعل حادة تجاه خطأ الابن فتبقى حالة القطيعة فترة من الزمن؛ وأحياناً بين الإخوة خاصة إذا وقع صراع حول الإرث حيث تسود المشاكل والخصومات بين الأبناء، وقد تنتقل إلى الأحفاد أيضاً.
وكل هذا خلاف تعاليم الإسلام، فالرسول محمد صلى اللَّه عليه وآله يقول: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»[19] .
وفي رواية عن الإمام الباقر : «في كل ليلة من ليالي شهر شعبان ورمضان يغفر الله تعالى لسبعين ألف من الناس، ليلة القدر يغفر الله لعدد من غفر لهم طوال شعبان ورمضان، ثم يقول للملائكة انظروا المتشاحن مع أخيه فأنظروهما». الإنسان الذي بينه وبين أخيه خصومة لا تدخلوه في المغفور لهم هذه الليلة. فهل تستحق هذه الخلافات أن تضيع من أجلها المغفرة، طبعاً لا تستحق وخاصة على مستوى صلة الرحم فإن »(صلة الرحم تطيل العمر) (صلة الرحم تبارك في الرزق) (صلة الرحم تدفع ميتة السوء وتدفع البلاء عن الإنسان»[20] ، فعلى الإنسان أن يجتهد في صلة رحمه.
وبعض الناس يقول: نحن نصل رحمنا ولكنهم لا يصلوننا.. الحديث الشريف يقول: «ولا تقطع رحمك وإن قطعك»[21] «صلوا أرحامكم ولو بالسلام»[22] .
سأل رجل الإمام : قائلاً عندي رحم ولكن ليس على أمري وأمركم – أي ليس على مذهبنا وطريقتنا – فهل أصله، فقال الإمام: «نعم فإن الرحم لا يقطعها شيء» حتى لو كان الرحم كافراً أو مشركاً، ويقول الله تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾[23] ولذلك يجب علينا أن نتجاوز حالة التشنج بيننا ونتفاداها.
أولاً: التفكير المثالي غير الواقعي:
بعض الناس يرسمون في أذهانهم صورة مثالية للآخرين وللأعمال وللأشياء، فلا تسمع منه إلا المفروض كذا والمفروض كذا.
فهل نعيش في عالم المفروضات والمثل؟!
نحن نعيش في عالم بشري فلا محالة من الأخطاء والنواقص والثغرات.
والمشكلة أن كل فرد يتكلم عن المفروض، فمثلاً عندما تسأل مدرساً ما عن الطلاب، يقول: المفروض على الطلاب أن يصبحوا كذا، وأن يعملوا كذا، ولكنه لا يتكلم عن نفسه. وكذا الأمر إذا سألت الطلاب يقولون: المفروض على المدرس أن يعمل كذا وكذا. دائماً نحن نتحدث عن المفروضات على الآخرين.
ثانياً: حالة القهر:
يقولون إن الإنسان المقهور أو المجتمع المقهور تصبح لديه حالة تشنج في تعاطيه مع الأحداث ومع الآخرين، فمثلاً شخص ما واقع في حالة قهر من رئيسه ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً له لأنه هو الرئيس، فيخرج غضبه على العمال الذين تحت إمرته، على عائلته في بيته، ما ذنب هؤلاء حتى تغضب عليهم، إذن إذا عاش المجتمع أو الإنسان حالة القهر والضغط فإن حالة التشنج سوف تسود المجتمع والشخصية.
ثالثاً: التربية والبيئة:
عندما يعيش الولد في البيت ويرى كيفية معاملة الأب للأم، ومعاملة الأم للأب، ومعاملة الوالدين مع أخوته، ومعاملة الأخ الكبير له، فإذا رأى حالة التشنج في البيت فإنه يكتسب هذه الحالة فتظهر حتى في ألفاظه، فمن أين اكتسب هذه الألفاظ؟ أمن المنجد أم من لسان العرب؟! هذه الألفاظ إنما اكتسبها من البيت، والبيئة التي عاش فيها، فالبيئة والعائلة هي التي قد تربي الإنسان على حالة التشنج، وفي حالة أخرى تربيه على حالة الانشراح والانبساط وسعة الصدر في التعامل مع الأمور والأشياء.
ونشير إلى أن العلاج يكون بمزيد من الوعي الاجتماعي والديني والأخلاقي.
أما نتائج هذه الحالة فهي طبعاً فقدان الثقة بين الناس، فالمجتمع الذي تسوده حالة التشنج لا يثق فيه الناس ببعضهم، فكل فرد يحتفظ بسجل وقائمة سوداء يسجل فيها الخلل والمشاكل التي لدى الآخرين..
ومن مضاعفات التشنج ومن آثاره انعدام الثقة المتبادلة، وانعدام المبادرات من أجل الشأن العام، وتفوت الفرص لأن كل واحد عندما يريد عمل شيء من أجل الشأن العام يفكر: ماذا سيقول الناس عنه، ويخاف: كيف سيتعاطى الناس معه. وهذا شيء ملحوظ.. فكثير من الناس إذا أراد أن يقوم بعمل اجتماعي يحسب ألف حساب لكلام الناس، فتقل المبادرات، لأن كل واحد يريد أن يبادر يُتناول بالألسن ويوجه له النقد، ويبحث عن الثغرات في عمله، فتجنباً للكلام والمزايدات يترك العمل..