حرية الرأي وتقدم المجتمع
قال الله العظيم في كتابه الكريم: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 17 ـ 18).التقدّم والتخلف رهن العقلية الاجتماعية العامّة:
التقدم والتخلّف في المجتمعات ليس عفويًّا أو يأتي بالصدفة أو حسن وسوء الحظّ، وإنما هناك وضع يعيشه المجتمع قد ينتج هذا الوضع تخلفًا أو تقدّمًا.
ولذلك فبالإمكان التنبؤ بمستقبل أي مجتمع من خلال دراسة ما يعيشه هذا المجتمع من عقليات وسلوكيات يتطبّع بها أفراده، فإذا كانت هذه العقليات والسلوكيات منتجة للنهوض فإن مجتمعها مرشّح للتقدّم، بينما لو كانت منتجة للجمود والتحجّر فإن المجتمع الجامع لها سيعيش حالة من التخلّف.
ولذلك فإن الآية التي افتتحنا بها صدر الحديث تعبّر بِـ (بشِّرْ) أي يا محمد انشر البشارة، ومن المعروف أن البشارة هي: الإخبار بما يسرّ، وعلى العكس منها الإنذار الذي يعني الإخبار بما يضر.
والآية تبشِّرُ الذين تتوفّر فيهم الصفة التالية: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
فمن تتوقّع منهم الصلاح والتقدّم هم من يتّصفون بهذه الصفة، بينما الذين يتصفون بالصفة المعاكسة متوقّع لهم التخلّف والشر.
الآية تتحدّث عن صفات إذا انتشرت في مجتمع مّا فيمكننا أن نتوقّع له الخير.
الإيمان وحرّية التعبير:
﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ﴾:هناك فرق بين السماع والاستماع، فالاستماع فيه تقصّد وتعمّد، ومن ذلك نستفيد أن الآية تتحدث عن المجتمع الذي يتقصّد فيه أفراده الاطلاع على الأقوال والأفكار المختلفة والمتعددة.
﴿الْقَوْلَ﴾: المفسّرون ذكروا لمعنى القول في هذه الآية معنيين، هما:
الرأي الأول: أن المقصود بالقول في الآية مطلق القول، أي الفكرة، ومجموعة الآراء.
الرأي الثاني: أن المراد بالقول هنا خصوص القرآن الكريم.
ومن قال بالرأي الثاني وقع في مشكلة تحديد الأحسن من القرآن الكريم، حيث من المفترض أن القرآن لا يوجد بين آياته ذلك التفاضل والتفاوت بحيث يكون هناك حسن وأحسن.
ولحل هذه المشكلة وجّهوا الآية بأن المراد من ذلك أن القرآن فيه تشريع للمباحات ودعوة للمستحبات، فالمؤمن هو من يتّبع الأحسن منهما، وهو هنا المستحب، لأنه الأولى والمثاب عليه. وضربوا لذلك مثلاً بتشريع القرآن للقصاص ثم دعوته للعفو، فمع أنه يحق للمسلم أن يأخذ بالقصاص لكنه يميل إلى العفو، وهو الأحسن.
وعلى الرأي الأول ـ وهو ما قد ينصرف إليه معنى الآية ـ تعتبر الآية أن المؤمن الذي له البشارة هو من يتقصّد استماع مختلف الآراء والأفكار فيتبع أحسنها.
ومن الطبيعي أن اتباع رأي أو فكرة معينة لا يأتي إلا بعد روّية وتفكّر وتأمّل.
والآية هنا ترشدنا إلى أن يتدبّر كل منّا الآراء والأفكار ويتأمل فيها ويقارن بينها، على أن تكون مقارنته بين الحسن والأحسن، ولا يكون تأمله وتفكيره بسيطًا وسطحيًّا ودون تعمّق، فتكون مقارنته بين ما هو سيئ وما هو حسن فقط، بل بين الحسن والأحسن.
وهذا الإرشاد من الآية الكريمة يوجهنا إلى نقطة مهمّة، هي أن الإنسان لا يستطيع أن يدّعي أنه اختار الفكرة والرأي الأحسن إلا عندما يطّلع على جميع الأفكار، ولذلك فالمجتمع الواعي من تطرح فيه جميع الآراء والأفكار دون أي حظر أو منع ليختار بنوه الأحسن منها.
وبعبارة أخرى: إن الآية تبشّر المجتمع الذي يعيش حالة من حرية الرأي والتعبير وتعتبره هو المجتمع الأقرب للهدى.
القدماء لم يكونوا يقصون الرأي الآخر:
وهذه الحالة (حرية الرأي وطرح الآراء المتعدّدة) كانت هي السائدة في تراثنا القديم، فنجد في الكتب النحوية القديمة ـ مثلاً ـ الرأي البصري بجانب الكوفي، يذكرهما المؤلف ويناقشهما.
وكذلك نجد في كتب اللغة ذكر الوجوه المتعدّدة للمفردة الواحدة، من غير إقصاء لأي وجه، ولو كان شاذًّا.
وحينما نراجع تفاسير القرآن نجد المفسرين يستعرضون مختلف الآراء في تفسير الآية، يرجّحون منها ما يتبنونه من رأي. ولذلك فكتب التفاسير القديمة تشكّل ثروة من الآراء حول تفسير القرآن وآياته.
وفي كتب الفقه وأصوله نجد علماءنا يبحثون الآراء في كل مسألة، ويرجحون منها رأيهم الذي يؤمنون به بعد نقاش علمي جادّ.
وفي كتب التراث نجد الرأي المشهور بجانب الرأي الشاذ، فالعبرة بالدليل وليس بشيوع أو شذوذ الرأي، إذ ربما يكون الشاذ يحمل في داخله من دليل ما يقوّيه.
المجتمعات الإسلامية وأحادية الفكر:
لكن حالة التخلّف أوجدت رأيًا واحدًا في مجتمعاتنا الإسلامية، وترفض أن يطرح أي رأي مخالف فيها، بينما في المجتمعات المتقدّمة تكون المعارضة السياسية ـ مثلاً ـ جزءًا من النسيج الاجتماعي والممارسة السياسية في تلك المجتمعات.
وما تعيشه مجتمعاتنا اليوم مخالف لما تطرحه الآية، فالله سبحانه وتعالى ـ في هذه الآية ـ يطلب منّا أن نستمع لمختلف الآراء ونتّبع أحسنها، فكيف نبحث في الآراء إذا كنّا نقصيها ونرفضها.
إن البعض بمجرّد أن يسمع رأيا مخالفًا لما ورثه من ثقافة سائدة يعتبر من يطرح هذا الرأي "ضالاًّ" و"خائنًا" و"منحرفًا" فكريًّا وعقائديًّا، وغيرها من التّهم الجاهزة، وهذا من مظاهر التخلّف في هذه المجتمعات.
من المفترض أن تكون هناك فرصة لطرح الآراء، وعلى الناس أن يستخدموا عقولهم لمحاكمة هذه الآراء، انطلاقًا من إمكانية الاعتماد على العقل وعدم تعطيله.
وكذلك لأنه الحجّة الباطنة التي يحجنا الله بها يوم القيامة، فكما يحتجّ على الإنسان بالحجة الظاهرة وهم الرسل يحتج عليهم بالعقل.
آليات تقبّل الرأي الآخر في المجتمع:
إن المجتمعات التي تعيش أحادية الرأي والفكر لا يمكن أن تتقدّم وتتغير سلوكياتها إلا بعاملين:
الأول: وجود جرأة في طرح الرأي
وفي هذه المجتمعات المتخلّفة لا تكون الظروف مهيأة لمثل هذه الخطوة، بل تكون الجرأة مكلفة، وبالذات الجرأة في الطرح السياسي المخالف، وغالبًا ما يكون الروّاد الأوائل هم الذين يدفعون ثمن جرأتهم، وقد يكون الثمن باهظًا يصل إلى درجة القتل في بعض الأحيان، وكذلك الحال في طرح الآراء الفكرية.
ولكن لتغيير الذهنيات والسلوكيات الاجتماعية المسيطرة يجب أن يكون هناك إصرار على طرح الرأي، وذلك لكي يعلن هذا الرأي ليعرف متبنوه مدى مصداقيته، حتى تنضج حوله الفكرة من خلال الردّ والردّ المقابل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليمهّد هذا الطرح السبيل لأن تطرح آراء أخرى من قبل الآخرين.
الثاني: احترام الرأي من قبل المجتمع
بحيث يتعوّد المجتمع على تقبل أن تطرح فكرة مغايرة لمألوفه ويناقش من يطرحها نقاشًا علميًّا جادًّا، أما إذا كان هناك قمع فكري لكل من يتجرأ على طرح الرأي المخالف فلا يمكن لهذا المجتمع أن يتقدّم، فالآية تبشّر من يستمع ويناقش ويتفكّر، لا مَنْ يرفض إعطاء الفرصة لطرح الرأي الآخر.
والحمد لله رب العالمين.