نفقات التسلح والمجاعة في القرن الأفريقي
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى: نفقات التسلح والمجاعة في القرن الأفريقي
ورد عن مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب انه قال: (إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك).
تأبى عدالة الله سبحانه وتعالى أن يوجد مخلوقًا واحدا لا رزق له في هذه الحياة. فحينما يكون هناك قرار إلهي بوجود مخلوق من المخلوقات، فلابد وأن يكون إلى جانبه قرار إلهي بتوفير ما يحتاج إليه هذا المخلوق من قوت في هذه الحياة، ولذلك يقول تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾، وورد عن أمير المؤمنين : (عياله الخلق ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم)، فقد قسم الله لجميع المخلوقات أرزاقهم في هذه الحياة، وما عليهم سوى السعي للوصول إلى رزقهم وتوفير متطلباتهم.
وقد شاءت مشيئة الله أن يجرى بعض أرزاق العباد على يد بني جنسهم من بني البشر في حال بروز الموانع التي تحجزهم عن الوصول إلى أرزاقهم كالكوارث الطبيعية والمجاعات والجفاف والآفات المختلفة أو النزاعات السياسية والأوضاع غير المستقرة السائدة في بعض البلاد، من هنا كان على الموسرين أن يعرفوا أن رزق هؤلاء المحرومين مقسوم على أيديهم، يقول الله تعالى ﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم﴾.
لازلنا نتابع منذ أسابيع مآسي المجاعة التي تضرب بلدان القرن الأفريقي في الصومال وكينيا وأثيوبيا، وهذه المجاعة هي الأولى التي تعلن عنها الأمم المتحدة منذ سنة 1984، ذلك لأن الأوضاع الإنسانية هناك بلغت حدا خطيرا ولم يسبق لها مثيل في السنوات الأخيرة. فهناك أكثر من 11 مليون من أبناء البشر يتعرضون الآن لمجاعة حقيقية، بينهم ما يقارب من 4 ملايين صومالي عربي مسلم، وإن كنا إزاء مختلف الكوارث الطبيعية لابد وأن نتحسس آلام جميع المتضررين والمحتاجين من أبناء البشر بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم.
إن هذه المجاعة مأساة عظيمة تحدث في جوارنا الجغرافي وبالقرب منا، وعلينا هنا أن نتذكر الحديث المروي عن رسول الله : (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع)، ولعل مفهوم الجوار المذكور هنا ينطبق سواء كان على مستوى الجوار الفردي أو على الصعيد المجتمعي أو الدول القريبة والمجاورة لنا، ولذلك ينبغي علينا بالفعل أن نتحسس آلام أولئك الجائعين في جنوب الصومال، فهذا البلد يشهد يوميا وفاة نحو 2500 إنسان بسبب الجوع، وهذا ما سيستمر إذا سارت الأمور على معدلاتها الحالية وفقا لتقارير المنظمات العاملة في مجال الإغاثة الإنسانية وما نسمعه من تقارير وتبثه الشاشات من صور لأطفال يتهاوون في الشارع موتا لأن أجسامهم لم تعد تستطيع حملهم بسبب الجوع.
هؤلاء الأطفال وقبل كل شيء هم أبناؤنا وإخواننا من بني البشر وممن ينطبق عليهم قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم)، علاوة على أن سكان هذه المناطق هم في أغلبهم من المسلمين ومن العرب، ومع ذلك لازلنا نقف مكتوفي الأيدي ونتفرج عليهم وهم يعيشون هذه المأساة.
ولو أردنا مقاربة أسباب تعرض البشر للمجاعات في تلك البلاد، لابد من الإشارة إلى جانبين أحدهما يكمن في تعاضد الكوارث الطبيعية مع النزاعات السياسية والآخر تباطؤ المجتمع الدولي المنشغل بتجارة الموت المتمثل في صفقات التسلح الهائلة.
فإلى جانب الآفات والكوارث الطبيعية كالجفاف الذي يضرب القرن الأفريقي حاليا، هناك أيضا عوامل أخرى متمثلة في النزاعات السياسية الداخلية والحروب، خاصة في الصومال، فقد يكون من أهم أسباب المجاعة عدم الاستقرار السياسي الذي يعيشه الناس هناك.
فهناك أكثر من 2 مليون صومالي مهددون بالموت جوعًا في جنوب البلاد الذي يخضع لسيطرة منظمات متشددة، هذه المنظمات المتشددة لا هي وفرت لهؤلاء الناس الطعام ولم تسمح في الوقت نفسه لمنظمات الإغاثة الإنسانية بالدخول لممارسة عملها في تلك المناطق، بدعوى أنها منظمات من دول كافرة. هذه المشاكل والنزاعات هي سبب رئيس من أسباب الفقر والمجاعة هناك.
أما على المستوى الدولي فالجميع يرى كيف ينفق هذا العالم مئات المليارات سنويا على تجارة السلاح والكماليات المختلفة، فيما يغض الطرف عن هذه المجاعة ويكتفي ببضع ملايين من الدولارات أو إرسال مساعدات قليلة لا تكاد تسد رمق هؤلاء الجوعى.
تذكر المعاهد المختصة بمتابعة الإنفاق العسكري العالمي أنه في سنة 2010 بلغ الإنفاق العسكري العالمي أكثر من تريلون ونصف ترليون دولار، والولايات المتحدة الأمريكية بمفردها كان نصيبها 698 مليار دولار، وهذا الإنفاق الأمريكي يتجاوز بست مرات إنفاق الصين على الجوانب العسكرية والبالغ 119 مليار دولار، لتحتل الصين المرتبة الثانية ضمن أكثر الدول في النفقات العسكرية متقدمة على بريطانيا وفرنسا وروسيا.
أما معدل نفقات دول الشرق الأوسط على التسلح - هذه المنطقة تقع المجاعة قريبا منها-، فقد أنفقت هذه الدول 111 مليار دولار في صفقات السلاح.
والسؤال هنا، لماذا تنفق هذه الأموال الهائلة ولمن تشترى حكومات المنطقة هذه الأسلحة؟
وضد من سوف تستخدم؟
للأسف الشديد يبدو أن هذه الأسلحة لا سبيل لاستخدامها إلا ضد شعوب المنطقة أو ضد دول المنطقة بعضها البعض، فالعدو الرئيسي لهم وهو إسرائيل بات منذ زمن في مأمن من هذه الأسلحة، ذلك لأن المزود الرئيسي لهذه الأسلحة وهي الولايات المتحدة لا يمكن أن تعطي للدول العربية سلاحا يهدد أمن إسرائيل، فهذه سياسة أمريكية معلنة، فقد تعهدت أمريكا بالحفاظ على التفوق العسكري المستمر لإسرائيل وأن لا تفسح مجالا لدول المنطقة بالتفوق عليها عسكريا.
إن شعوب المنطقة تعيش حاجات حقيقة وتنقصها التنمية، كما تعصف بها الأزمات من كل ناحية خصوصا في ظل الظروف الحالية، فهناك ملايين الشباب يعيشون البطالة، وعشرات الملايين لا يتوفر لهم السكن والتعليم العالي والعلاج المناسب، ومع ذلك نرى حكومات المنطقة لا تزال مصرة على إنفاق المليارات على الأسلحة!
لقد صرفت الدول العربية العام الماضي وحده أكثر من 600 مليار دولار في صفقات السلاح وذلك من أصل 111 مليار دولار مصروفات دول الشرق الأوسط مجتمعة. أما نفقات السلاح في قارة أوروبا سنة 2010 فقد بلغت 382 مليار دولار.
هكذا ينفق العالم المبالغ الطائلة على السلاح والفناء والدمار بينما ملايين الناس يعيشون المجاعة. علينا ونحن نقبل على شهر رمضان المبارك أن نتحسس آلام الآخرين في بلادنا والبلاد الأخرى، نتحسس آلام الجوع والحاجات الإنسانية المختلفة لمن حولنا من البشر. نسأل الله أن يجعلنا ممن ينفقون مما رزقهم، وأن يشبع هؤلاء الجياع ويرفع معانتهم.
ورد عن عبد السلام بن صالح الهروي قال دخلت على الإمام علي بن موسى الرضا في آخر جمعة من شهر رمضان فقال لي يا أبا الصلت: إن شعبان قد مضى أكثره وهذا آخر جمعة فيه، فتدارك فيما بقي تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتب إلى الله من ذنوبك، ليقبل شهر رمضان إليك وأنت مخلص لله عز وجل لا تدعن أمانة في عنقك إلا أديتها وفي قلبك حقدًا على مؤمن إلا نزعته ولا ذنبا أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه. واتق الله وتوكل عليه في سرك وعلانيتك، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر: اللهم إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه فإن الله سبحانه وتعالى يعتق في هذا الشهر رقابا من النار لحرمة شهر رمضان.
كيف نتأهب لاستقبال شهر رمضان؟
تعود الناس أن يتأهبوا في آخر اسبوع من شهر شعبان لشراء مستلزمات بيوتهم من مواد غذائية تعينهم على صيام شهر رمضان المبارك، لكن السؤال هنا؛ كيف يتأهب الإنسان روحيا ونفسيا ليقبل على ضيافة الله في هذا الشهر الفضيل.
الله يدعونا لضيافته في هذا الشهر، وقد تعود كل منا عندما يعزم النزول عند ضيافة أحد من ذوي الشأن فإنه يتهيأ نفسيا ويرتدي أجمل حلله، ونحن الآن نتهيأ لضيافة الله فكيف نفعل ذلك؟
إن أفضل تهيئة يقدم عليها العبد المسلم مع دخول شهر رمضان المبارك هي اعلان التوبة لله سبحانه وتعالى، وبحسب تعبير الرواية الآنفة عن الرضا (وتب إلى الله من ذنوبك).
إن التوبة تعني الإقرار بالذنب والتعهد بعدم العودة إليه. إذ لا يخلو الواحد منا من ذنوب فنحن بشر معرضون للأخطاء، وبالتالي فنحن بحاجة إلى التوبة.
وكما إن أجسامنا بحاجة إلى العناية بالغسل والتنظيف باستمرار، فلا يكتفي بأن يستحم الواحد مرة في العمر أو في السنة أو الشهر، كذلك الحال بالنسبة للروح، فكما يحتاج جسمك للتعهد بالنظافة تحتاج روحك ونفسك إلى التعهد بإزالة الشوائب، وهذا هو معنى التوبة.
ولعل السؤال هنا، إذا كان الله تعالى يعرف طبيعة عباده، المعرضين باستمرار لارتكاب الأخطاء وللذنوب، فما هو الموقف حينما يقع الإنسان في الخطأ والمعصية؟ حقيقة الأمر أن هناك حالتين تنتاب العبد في هذا المقام، حالة التساهل واللامبالاة، فلا يعود يبالي بأي ذنب أذنبه، وهي الحالة السيئة، وكما ورد عن علي (أشد الذنوب ما استخف به صاحبه).
أما الحالة الأخرى التي قد تنتاب العبد المذنب فهي اليأس والقنوط وسيطرة العقد على نفسه. إن النفس البشرية مركبة من قوى الخير والشر، فالإنسان يعيش صراعا مستمرا مع نفسه، ففيها ما يدفع الإنسان لعمل الخير، وفيها ما يجره لارتكاب الخطايا، وفوق ذلك يتحلى كل إنسان بضمير يقض يعاتبه على ارتكاب المعصية، وتلك هي النفس اللوامة بحسب تعبير الآية القرآنية ﴿ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾.
إن يقظة الضمير تجعل الإنسان بطبيعة الحال غير مرتاح تجاه الذنوب التي ارتكبها، لكن هذه الحالة تتحول لدى بعض الناس إلى مستوى العقدة والاستلام لليأس، وهذا خطأ كبير فلا يجوز القنوط من رحمة الله، وقد حذرنا القرآن الكريم من هذه الحالة، ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون﴾، وورد عن علي : لا تيأس لذنبك وباب التوبة مفتوح.
إن الله تعالى في محكم آياته يدعو عباده للتوبة ﴿وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه﴾، ويقول تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾، ويقول تعالى: ﴿ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده﴾.
فالله سبحانه وتعالى يدعونا إلى التوبة وهو يتعهد بأن يقبل التوبة عن عباده، فالعباد يعصون ربهم لكنه سبحانه يقول أنا أقبل توبتكم، وأن تكرر الذنب، وذلك من رحمة الله تعالى بخلقه، فهل ثمة لطف أعظم من هذا؟
هنا لابد من الإشارة إلى أن أول مراحل التوبة هي الإقرار والاعتراف بالذنب، فمشكلة الإنسان في أكثر الأحيان هي المكابرة والجحود وعدم الاعتراف بأخطائه.
إن على الإنسان أن يتفحص سلوكه وأوضاعه وخاصة في علاقته مع الآخرين، ففي الغالب لا يعترف الإنسان بخطئه ويرمي اللوم على الآخر، ينبغي أن يعترف الإنسان في قرارة نفسه بأخطائه فتلك أول مراحل التوبة.
ولكن السؤال؛ كيف يقر بذنوبه التي بينه وبين ربه؟ فهل ينشر ذلك في الصحيفة الرسمية مثلا، أم يقف على الملأ ليعترف بأخطائه؟
إن الاعتراف بالذنب من أدق المسائل التي تناولتها الشريعة، وقد عدت إعلان المعاصي وإشهار الذنوب من السلوك المذموم، فلا يجوز للإنسان أن يتحدث بذنوبه للناس، وقد ورد في الأثر (إذا بليتم فاستتروا)، كما ورد عن الإمام الرضا ( المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور له)، وورد عن رسول الله ص: (كل أمتي معافاة إلا المجاهرين الذين يعملون العمل بالليل فيستره ربهم، ثم يصبح أحدهم فيقول يا فلان إني عملت البارحة كذا وكذا).
وقد ورد عن أحد الأولياء الصالحين القول: لا ينبغي لأحد أن يهتك ستر الله قيل وكيف يهتك ستر الله؟ قال: يعمل الرجل الذنب فيستره الله عليه فيذيعه في الناس.
لا ينبغي للإنسان أن يتحدث عن ذنوبه وأخطائه أمام الآخرين ايا كانوا ومهما كان قربهم منا، أو علت مقاماتهم الاجتماعية أو الدينية.
في هذا السياق نحن نتلقى بين الفينة والأخرى أسئلة متعلقة بمشاكل العلاقات الزوجية، اذ تستفسر من خلالها الزوجة حول ما إذا كان من واجبها إخبار زوجها عن أخطاء كانت ارتكبتها في الماضي، نزولا عند الرغبة في المكاشفة والمصارحة، وذات السؤال يأتينا من بعض الأزواج، وقد يذهب البعض بعيدا في اعتبار مصارحة الزوجين لبعضهما بأخطائهم الخاصة، نوعا المفاتحة والمثالية الجيدة، والحقيقة أن هذا النوع من المكاشفة بين الزوجين خطأ كبير ينبغي اجتنابه، فالواجب أن يستر الإنسان ما ستره الله عليه، أما الاعتراف بالذنب فلا يكون إلا إليه سبحانه وتعالى، فبين يديه سبحانه يقر العبد بذنوبه ويتوب إليه التوبة النصوحة ويطلب منه المغفرة، فلنبادر جميعا للمكاشفة مع الله تعالى وطلب التوبة منه.
وقد وردت في مجال التوبة الكثير من النصوص والأدعية التي تربي الإنسان على التوبة من ذنوبه وتعلمه آداب الخطاب مع الله سبحانه وتعالى. فقد روي عن الإمام الباقر قوله (لا مصيبة كاستهانتك بالذنب ورضاك بالحالة التي أنت عليها). وقال أيضا (والله ما ينجو بالذنب إلا من اقر به)، كما ورد عنه : (لا والله ما أراد الله من الناس إلا خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم، وبالذنوب فيغفرها لهم).
من هنا كان على كل واحد منا قبيل شهر رمضان المبارك، أن يختلي بنفسه، وأن يعمل له جرد حساب شخصي يتضمن أخطاءه وذنوبه، ليعترف بها أمام الله سبحانه تعالى، ويتوب منها.
نحمد الله تعالى أن بلغنا وإياكم هذه الجمعة الأخيرة من شهر شعبان، ونسأله أن يبلغنا شهر رمضان وأن يوفقنا لصيامه وقيامه وأن يجعلنا من المشمولين برحمته ورضاه.