المشاعر الدينيّة بين الوعي والاستغلال
روي عن الإمام الصادق إنّه قال: «الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ فَلَا تَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً»[1] .
تحديد المقصد والهدف شيء أساس في حركة الإنسان وسيره في مختلف مجالات الحياة، فلابد وأن يحدّد الإنسان هدفه ومقصده في كلّ مجال من المجالات، لكن تحديد الهدف ليس هو كلّ شيء، وإنّما هناك جانب لا يقلّ أهميّة عن هذا الجانب وهو اكتشاف الطريق الصحيح الموصل إلى الهدف، فربما يختار الإنسان هدفاً جيّداً لكنّه إذا لم يكتشف الطريق المناسب وسلك طريقاً آخر فلا شكّ إنّه لا يصل إلى هدفه، ولابد من اكتشاف الطريق الصحيح إلى الهدف الصحيح، و قد يكون في بعض الأحيان طريق أطول وأوعر من آخر، وبإمكان الإنسان حينها أن يختار الطريق الأسهل والأسرع، من هنا كان على الإنسان أن يبذل جهداً في اكتشاف الطريق الذي يريد منه أن يوصله إلى هدفه وغايته؛ فكثير من الناس لا يبذلون الجهد المناسب لاكتشاف الطريق الموصل إلى مقاصدهم وأهدافهم، فمثلاً:
إن نجاح الحياة الزوجيّة هدفٌ لكلّ متزوج، ولكن ـ وللأسف الشديد ـ لا نلحظ إيلاء عناية ولا جهد مناسب من قبل المتزوجين لمعرفة أفضل السبل الكفيلة بإنجاح الحياة الزوجيّة، وكذا الأمر في تربية الأولاد الصالحين فهي مقصد وهدف يحمله كلّ إنسان، لكن المطلوب هو بذل الجهد من أجل معرفة الطريق الصحيح لتربية الأولاد وتنشئتهم كي يكونوا ناجحين صالحين، وهكذا في مختلف المجالات والصعد الأخرى.
وعلى الصعيد الدينيّ، فالمؤمن الذي يريد تحقيق رضا الله، عليه أن يصرف جهداً في معرفة الطريق لتحقيق رضا الله عزّ اسمه، وقد يصرف الإنسان جهداً في طريق من الطرق، إلا أنّه يكتشف بعد ذلك خطأ ذلك الطريق فيخسر جهده.
يقال: إن هناك عاملين كان مطلوباً منهما أن يقوما بإصلاح أجهزة من على سقف عمارة تتكوّن من أربعين طابقاً، وحينما وصلا إلى العمارة شاهدا تعطّل مصعد هذه العمارة، الأمر الذي يملي عليهما الصعود من على سلالم العمارة ذات الأربعين طابقاً، وحينما صعدا إلى سطح العمارة بعد عناء وتعب طويل، بان لهما الخطأ الكبير الذي ارتكباه؛ حيث لم تكن هذه العمارة التي تجشّموا عناء صعود السلالم للوصول إلى سطحها هي العمارة التي كُلّفوا بإصلاح الأجهزة فيها!! وبغض النظر عن واقعيّة هذه القصّة أم رمزيّتها، لكنها ترمي التأكيد على موضوع إن الإنسان إذا لم يتأكّد من الطريق إلى مقصده فيمكن أن يضيّع عمره ليكتشف بعد ذلك خطأ طريقه وخطله.
من هنا أكّدت النصوص والتوجيهات الدينية على الاهتمام بمسألة التأكّد من الطريق الذي يسير فيه الإنسان؛ فهذه الرواية الجميلة عن الإمام الصادق والتي تقول: «الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ فَلَا تَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً»، تفيد هذا المعنى وتؤكّد على أن الإنسان الذي يعمل من دون بصيرة ودراية، هو كالسائر الذي يسير في غير الطريق الذي يوصله إلى مقصده، كمن أراد الذهاب إلى مكّة فسار في طريق الشام مثلاً، وكلما أسرع في طريقه فقد ابتعد عن هدفه وغايته التي يريد الوصول إليها، من هنا وجب عليه التأكّد من صحة الطريق، وذلك بالبحث الموضوعي السليم.
فبعض الناس يختارون الطريق بناءً على عواطفهم ورغباتهم، كمن أراد الذهاب إلى مكّة، فأعجبه طريق جميل معبّد فسلكه من دون أن يتأكد أن هذا الطريق سيوصله إلى مكّة، غافلاً عن أن المهم في الطريق هو الغاية والهدف الذي تريده منه، لا في الارتياح إلى الطريق والرغبة فيه وجماليّته، ولا يصحّ من الإنسان الاعتماد على رغباته وعواطفه في تحديد الطريق الذي يوصله إلى هدفه، وإنّما عليه التأكّد من إيصال هذا الطريق إلى الهدف، حتى وإن كان خلاف عواطفه ورغباته، وهذا ما تؤكّد عليه النصوص.
لقد أعطى الله الإنسان عقلاً وعليه التفكير واستخدامه بشكل سليم، والاستعانة بالعلم والمعرفة، فإن ذلك هو الكفيل بأن يكشف للإنسان الطرق الصحيحة للمقاصد والأهداف.
إن بعض الناس تفوتهم هذه الأمور حتى في المجالات الدينيّة، فحينما يريد الإنسان أن ينال رضا الله سبحانه وتعالى والقيام بعمل الخير، فلا بد من التفكير في الطريق الصحيح لسلوك ذلك، وما الاعتماد على الأشياء العاطفيّة، والأطياف والأحلام للوصول إلى الله، والتقرّب إلى أهل البيت عليهم السلام إلا خطأ فادح في هذا المجال، كما هو الأمر كذلك في سلوك الطرق المنتسبة إلى الغيب كمن يستخير مثلاً، ومما أثار استغرابي ودهشتي ما نقله لي بعض الأخوة من إن طالباً سأل أحد المواقع الدينيّة حول اختيار التخصّص المناسب لدراسته الجامعية فأجابه: عليك بالخيرة!!
إذا كان مقصود هذا الموقع من الخيرة معناها الشرعي، وهو صلاة ركعتين وطلب الخير من الله عزّ وجلّ، على أساس تفكير ودراسة، فلا شكّ في سلامة هذا الخيار؛ لكن إذا كان معناها الاعتماد على فتح القرآن أو المسبحة، أو الاتصال بشخص يمتهن هذه المهنة، فهذا ليس بطريقٍ يؤمر به من قبل الشرع على حساب العقل والعقلانيّة؛ فالشارع يأمرك بالتفكير والمشاورة وبعد ذلك تأتي مرحلة الاستخارة بالمعنى الوارد في الروايات الصحيحة.
إذن؛ اختيار الطريق ـ سواء أكان في المقاصد الدنيويّة أو المقاصد الأخرويّة ـ ينبغي أن يعتمد على العقل.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إنّه قال:« يَا كُمَيْلُ مَا مِنْ حَرَكَةٍ إِلَّا وَأَنْتَ مُحْتَاجٌ فِيهَا إِلَى مَعْرِفَةٍ»[2] .
فالمعرفة هي التي تسوّغ الحركة بغض النظر عن مسار الحركة وهدفها، لا الأحلام والأطياف والغيبيّات.
كما يروى الإمام الصادق عن جده رسول الله إنّه قال:«مَنْ عَمِلَ عَلى غَيْرِ عِلْمٍ، كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ»[3] ، فما دامت حركة عمله ليست على أساس علم ومعرفة ودراية فإن ما يفسده في هذا المجال أكثر.
وفي هذا السياق علينا التنويه إلى ما نلاحظه من نصب واحتيال في الميدان الدينيّ؛ فبقدر ما يحمله الناس من حماس وتوجّهات دينيّة، يوجد نصّابون يصدّونهم عن الطريق الصحيح لتحقيق رضا الله سبحانه وتعالى، ولذلك ليس كلّ من أرشد إلى طريق للتقرّب إلى الله أو أهل البيت عليهم السلام هو صادق في ذلك، وينبغي على الناس القبول بإرشاداته وطرقه، بل عليهم أن يفكّروا بعقلانيّة، وأن لا يغفلوا عن استخدام العقل.
لقد تحدّث القرآن الكريم عن دور الشيطان في صدّ الإنسان عن السبيل يقول تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾[4] ، وهكذا تحدّث القرآن الكريم عن الأحبار والرهبان علماء اليهود والنصارى الذين كان يفترض بهم هداية الناس إلى الطريق الصحيح في الدين، لكنهم ضيعوهم وأضلوهم بدل هدايتهم إلى الطريق الصحيح، وهذا ما أشارت له الآية الكريمة: ﴿إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه﴾[5] ، وهذا يكشف عن ضرورة كون الإنسان مفكّراً فيما يسلك من طريق.
في هذا الزمن نجد إن هناك استغلالاً من قبل جماعات تتبنّى التطرّف لمجموعة من الشباب المتحمّسين الذين يريدون خدمة دينهم وأمتهم في مختلف البقاع والأصقاع؛ حيث تلعب بمشاعرهم الدينيّة، وتقودهم إلى التطرّف والعنف، يدلّسون عليهم بآية من هنا، ورواية من هناك، ولو استخدم هؤلاء الشباب عقولهم فلا شكّ إن هذا المصير لم يكن حليفهم، وكلّ ذلك يجب أن يدفع الإنسان إلى اليقظة وعدم السماح لأحدٍ باللعب على مشاعره الدينيّة والمذهبيّة أو دغدغتها ليجرّه إلى متاهات، على الإنسان أن يفكّر بعقله الذي منحه الله إياه.
سَألَ ابْنُ السِّكِّيتِ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ [الإمام الرِضا أو الإمام الهادي [6] : مَا الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ الْيَوْمَ؟
فَقَالَ: «الْعَقْلُ؛ يَعْرِفُ بِهِ الصَّادِقَ عَلَى اللَّهِ فَيُصَدِّقُهُ، وَالْكَاذِبَ عَلَى اللَّهِ فَيُكَذِّبُهُ»[7] .
فيمكن للإنسان عن طريق العقل اكتشاف سلامة وصحّة طرح الداعي والموجّه الذي يقدّم فكرة معيّنة.
وفي حديث عن النبي إنّه قال: «إنَّ اللَّهَ يُطَاعُ بِالْعِلْمِ، وَيُعْبَدُ بِالْعِلْمِ وَخَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ الْعِلْمِ، وَشَرُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ الْجَهْل»[8] ، فلا يطاع الله بالخرافات والأساطير.
ومن المناسب جداً أن نتأمل في القصة التالية التي أوردتها مصادر الحديث كصحيح البخاري وغيره، لندرك أهمية الرجوع إلى العقل وأن لا يسلم الإنسان قياده ومصيره لكل أحد، خارج نطاق التعقل والتفكير:
«بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ[آله] وسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ[آله] وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ[آله] وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»[9] .
والقصّة أعلاه تكشف عن الدور الكبير الذي منحته الشريعة الإسلاميّة للعقل؛ حيث إن على الإنسان أن يستخدم عقله ويحكمه في أحلك الظروف فيقدم على ما يعرف العقل حُسنه، ويحجم عن ما يقرّر قبحه، فمع إن تأمير هذا الرجل الأنصاري من قبل النبيّ مباشرة، وجميع المأمورين قد سمعوا الأمر المباشر منه عليهم، ولم يسمعوا ذلك من رواية قد مرّ عليها أكثر من ألف سنة مثلاً، لكنّهم حكّموا عقولهم، ولم يأتمروا لطلبه منهم، وقد اقرهم النبي على ذلك، بل حذّرهم لو كانوا أطاعوه من مصير الهلاك.
ومجمل القول: إن على الإنسان أن يفكّر بعقله قبل الإقدام على أي عمل دينيّ أو دنيويّ، وفي مختلف الصعد والمستويات.