تشجيع التراجع عن الخطأ
﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[سورة المائدة، الآية:39].
لا حدود لرحمة الله بعباده، وغفرانه لذنوبهم، وتجاوزه عن أفعالهم. إذ بخلاف تعاطي البشر مع بعضهم بعضًا، حيث يغضب الواحد أيّما غضب حين يواجهه أحدٌ بالإساءة، ويسعى إلى ردّ الإساءة إلى صاحبها، كما هو السّلوك الشائع، المنطلق من غريزة حبّ الذات والدفاع عنها.
لكن هناك من الأشخاص من تتسع صدورهم، وتتسامى أخلاقهم فيقابلون الإساءة بالصفح، ولا يردون على الإساءة بالإساءة، وإن كان حقّ الردّ مشروعًا بالنسبة لهم، غير أنّ هذه الفئة من الناس ذات المناقبية العالية، ربما كان لديها في الغالب سقف محدود لتجاوز الإساءة والصفح عنها، فقد يصفح الإنسان عمّن أساء إليه مرة ومرتين وثلاث، لكن مع تكرّر الإساءة من شخص تجاه آخر، فإنّ استعداد الأخير للصفح والعفو يزداد انخفاضًا، وربما تلاشى تمامًا مع تكرر الإساءة.
إنّ هذا ما يجعلنا ندرك مدى عظمة الله تعالى، وسعة رحمته بعباده، حين يستوعبهم بلطفه دونما حدود أو قيود، مهما كان مستوى تكرر صدور الإساءة، فإذا ما أذنب العبد، ثم تاب وندم على ما فرّط في جنب الله، قبِل منه تعالى توبته، وإذا ما عاد إلى الذنب ثانية ثم تاب وندم، عاد عليه تعالى بالتوبة مرة أخرى، وكذا الحال لو تكرر ذلك ألف مرة، فلا حدود لعفو الله ورحمته.
رحمة واسعة تحتضن العباد
إنّ باب التوبة مفتوح على مصراعيه، ورحمة الله واسعة تحتضن العبد، وتستقبله، مهما بلغ وتكرر صدور الإساءة من طرفه. وهذا ما تؤكّده جملة من النصوص الدينية، التي تشجّع العبد على التوبة والتراجع عن الخطأ، فقد ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: «إِنَّ الله عزَّ وجَلَّ يقْبَلُ توْبة العبْدِ مَا لَم يُغرْغرِ»[1] ، إنّ الله تعالى يقبل التوبة عن عباده حتى لو جاءت في آخر لحظات حياتهم، بل وإلى اللحظة التي تسبق خروج الروح عن الجسد.
ويكفي أن نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى، يعلن عن محبّته للتائبين، والمقلعين عن ذنوبهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾، وتأتي محبّة الله هنا حتى لو كان العبد للتوِّ قد عصى خالقه، وارتكب الذنب، ثم تاب عنه، فالله ليس بصدد العفو عن عبده المذنب وحسب، وإنّما يعلن سبحانه فوق ذلك عن محبّته لهذا العبد التائب.
وورد عن رسول الله أنه قال: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ»[2] ، وجاء في حديث نبوي آخر يقرب الصورة إلى أذهان العباد، ويظهر مدى سعة رحمة الخالق جلّ وعلا، حيث قال: «الله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضالّ الواجد، ومن الظمآن الوارد»[3] ، ولنا أن نتصوّر عظيم الفرحة التي تنتاب قلب العقيم الذي يرزق بولد بعد عمر طويل، فالله تعالى لا يقلّ فرحًا بتوبة عبده من فرح هذا ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾.
والحال نفسه مع الشخص التّائه في عمق الصحراء، حيث مصيره على المحكّ، فكيف تكون فرحته حين يعثر على جماعته، أوَليس يرى أنه قد عادت له الحياة، وقد ولد من جديد؟ ويمضي التشبيه النبوي في وصف قبول وفرح الخالق تعالى بتوبة عبده كفرح الظمآن الذي يجد الماء بعد ظمأٍ طويل، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾.
كيف تتحقق التوبة؟
لا بُدّ من التذكير بأنّ التوبة لا تتحقق بمجرّد التلفّظ بعبارات الاستغفار. وإنما يبقى أمر قبول التوبة مشروطًا بأمرين:
الأول:
أن تنبع التوبة عن شعور حقيقي في أعماق الإنسان بالندم، والعزم على الإقلاع عن الذنب والمعصية، وإدراك فعلي لعظم ما اقترف العبد من معصية وذنب.
الثاني:
تلافي التائب لآثار الذنوب والأخطاء التي اقترفها، قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فالإصلاح الوارد في الآية هو إصلاح آثار وتداعيات الذنوب والمعاصي، وخاصة تلك المرتبطة بحقوق الناس، فإذا ما أخطأ شخص بحقّ آخر، فلا يكفي أن يتلفّظ بعبارة الاستغفار وكفى، وإنما على المخطئ أن يعيد الحقّ للشخص المُعتدى عليه، سواء كان حقًّا ماديًّا أو معنويًّا. كما تعني لفظة ﴿وَأَصْلَحَ﴾ الواردة في الآية الكريمة، أن يتّجه الإنسان التائب إلى إصلاح نفسه، وأن يحيطها بأجواء الخير والصلاح، حتى تكون توبته توبة حقيقية مقبولة، ويحظى بموجبها بمحبّة الله تعالى.
لقد شاءت الحكمة الإلهية أن يبقى باب التوبة مشرعًا على الدوام. وذلك انطلاقًا من أمرين:
الأمر الأول: معرفة الخالق لطبيعة الإنسان، وأنّ هذا الإنسان كثيرًا ما يضعف أمام شهواته وأهوائه، قال تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾، كما سبق في علمه سبحانه أنّ الإنسان إذا ندم وأدرك خطأه مرة، فإنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ إرادته تلك باتت أكثر صلابة من ذي قبل، على نحو يعصمه من الوقوع في الخطأ مرة أخرى، ولأنه يعلم بطبيعة عباده، فلذلك يستوعبهم بلطفه ورحمته.
الأمر الثاني: طبيعة الصفات الإلهية، فمن صفاته سبحانه أنه الغفور، الرحمن، الرحيم، أوَلسنا نجد عند مفتتح كلّ سورة قرآنية قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، ولعلّ منشأ ذلك أنّ هاتين الصفتين تحديدًا، هما مما يشيعان الأمل والرجاء في نفوس عباد الله، مهما كانت أخطاؤهم وذنوبهم التي غرقوا فيها، تحت تأثير شهواتهم وأهوائهم.
الدرس الأخلاقي
إنّ في قبوله تعالى التوبة عن عباده، أعظم درس أخلاقي يزجيه الخالق سبحانه للناس كافة. فإلى جانب الحماس والاندفاع نحو التوبة، وإدراكنا بأنّ الله تعالى يقبل التوبة، ويسع العباد برحمته بالغًا ما بلغت أخطاؤهم وذنوبهم، ينبغي أن نستفيد إلى جانب ذلك درسًا أخلاقيًّا عظيمًا، مفاده أنّ الإنسان في تعامله مع من هم حوله، وخاصة إذا كان في موضع القيادة، فإنّ عليه أن يتخلق بأخلاق الله، فهؤلاء الدعاة الذين يدعون الناس إلى الله، ويوجهونهم نحو الدين، عليهم أن يتخلّقوا بهذا الخلق، فيفتحون أمام الناس أبواب الأمل والرجاء، لا أن يكونوا قساة يبثّون القنوط واليأس في قلوب الناس، مهما أمعنوا في انحرافهم، فإنّ الدعاة إلى الله ينبغي أن يتعاطوا معهم بشفقة ورحمة، تمامًا كما كان يفعل الأنبياء والأئمة مع أقوامهم، حيث لم يكونوا يتعاملون مع العصاة بغلظة وقسوة، مهما بلغت معاصيهم.
ولعلّ خير مثال على ذلك، ما جاء في تعامل الإمام الحسين مع الحرّ بن يزيد الرياحي، الذي جعجع به في الطريق الى كربلاء، وأوقعه في وسط معسكر الأعداء إبّان واقعة الطّف، وبمجرّد أن أقبل الحرّ وخاطب الإمام قائلًا: وِانِّي تائبٌ إِلى اللهِ تعالى ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلكَ توبةً؟، سرعان ما أجابه: «نَعَمْ، يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْكَ»[4] ، إنّ على الدعاة إلى الله أن يتخلقوا بهذا الخلق.
كما أنّ على الأهل أيضًا أن يحذوا هذا الحذو، وخاصّة في هذا الزمن، الذي يواجه فيه الأبناء والبنات تحدّيات صعبة، فهم يواجهون ضغوطًا غير مسبوقة، لم تعشها الأجيال السابقة، هذه الأجواء التي يعيش ضمنها الأبناء والبنات، ربما دفعتهم للوقوع في بعض الأخطاء والمخالفات، وهنا ينبغي للعائلة أن تستوعب أبناءها، فلا يواجهونهم بقسوة وغلظة، مهما كانت الأخطاء التي وقعوا فيها؛ لأنّ مواجهتهم بغلظة ربما دفعتهم لارتكاب ما هو أشدّ.
ولعلّ ذلك ما يفسّر جانبًا من أسباب هروب بعض الأبناء والبنات من عوائلهم، لعدم اتّساع صدر العائلة لاستيعاب أخطاء أولادها، الأمر الذي يقود إلى نتائج وخيمة على الجميع. من هنا ينبغي أن تتخلق العائلة بأخلاق الله في التعامل مع أخطاء أبنائها، فكما أنّ الله يفتح باب التوبة لعباده دائمًا وأبدًا، فكذلك العائلة أيضًا ينبغي أن تكون أبواب العودة والتراجع عن الخطأ مشرعة أمام أبنائها وبناتها.
احتضان المذنبين
وأخيرًا، ينبغي للمجتمع الديني أن يستقطب العصاة والمذنبين. ذلك أنّ الأوساط الدينية ربما تجنح نحو نبذ الذين ترى في مسلكهم انحرافًا، ولو فكّر أحد المخطئين أن يأتي للمسجد ذات يوم، فمن الصعب أحيانًا أن يجد له مكانًا في الوسط المسجدي. بل قد يُنظر اليه بارتياب وبعين شزراء، والحال أنّ الأوساط الدينية ينبغي أن تحتضن هؤلاء التائبين، وأن تظهر الفرحة بعودتهم إلى طريق الله، تمامًا كما هي فرحة الخالق عزّ وجلّ بذلك، فالمطلوب أن يتخلق الجميع بأخلاق الله، حتى نشجّع المخطئين على التراجع عن الخطأ، وإلّا فإنّ التعامل المنفّر مع هؤلاء سيكون عاملًا مثبّطًا للعزيمة، لمن كان عندهم رغبة أو نية في التوبة والعودة عن طريق الانحراف. هذا هو الدرس الأخلاقي الذي يجب أن نستقيه من النصوص الدينية، في تأكيدها على سعة رحمة الله، وقبوله التوبة عن عباده.
الخطبة الثانية: التشيّع ورعاية الانسجام في الأمة
ورد عن الإمام العسكري أنه قال: «أُوصيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَالْوَرَعِ في دينِكُمْ وَالاِْجْتَهادِ لِلّهِ وَصِدْقِ الْحَديثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ إِلى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ مِنْ بَرٍّ أَوْ فاجِر وَطُولُ السُّجُودِ وَحُسْنِ الْجَوارِ. فَبِهذا جاءَ مُحَمَّدٌ، صَلُّوا في عَشائِرِهِمْ وَاشْهَدُوا جَنائِزَهُمْ وَعُودُوا مَرْضاهُمْ وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذا وَرَعَ في دينِهِ وَصَدَقَ في حَديثِهِ وَأَدَّى الأَمانَةَ وَحَسَّنَ خُلْقَهُ مَعَ النّاسِ، قيلَ: هذا شيعِيٌ، فَيَسُرُّني ذلِكَ. اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا زَيْنًا وَلا تَكُونُوا شَيْنًا، جُرُّوا إِلَيْنا كُلَّ مَوَدَّة وَادْفَعُوا عَنّا كُلَّ قَبيح، فَإِنَّهُ ما قيلَ فينا مِنْ حَسَن فَنَحْنُ أَهْلُهُ، وَما قيلَ فينا مِنْ سُوء فَما نَحْنُ كَذلِكَ»[5] .
ثمّة توجيهات متكرّرة ومشدّدة، من أئمة أهل البيت لشيعتهم، بشأن حسن العلاقة مع محيطهم الاجتماعي. ولا يكاد يخلو تراث إمام من الأئمة من توصيات وتوجيهات في هذا السّياق، حتى إنّهم شرّعوا لشيعتهم أن يتجاوزا بعض الأحكام الشرعية، متى ما كان الالتزام بذلك الحكم يسبّب مشكلة للمكلف ضمن المحيط الإسلامي الذي يعيش فيه، وذلك ضمن تأكيدهم على الالتزام بأحكام التقيّة.
فعلى النقيض من تشنيع البعض على الشيعة لجهة تبنّيهم مفهوم التقيّة، يمكن اعتبار أحكام التقية من مفاخر مذهب أهل البيت، لا عيبًا يشنّع به عليهم، وذلك لأنّ غرض التقية الحقيقي هو دفع الفرد نحو الانسجام التام مع محيطه الاجتماعي الإسلامي، وألّا يعيش حالة التنافر مع هذا المحيط، وهذا أمر يُفخر به. سيّما وقد قسّم الفقهاء التقية إلى موردين: مورد التقية الاضطرارية، وهي التي تأتي نتيجة وجود خطر ماحق على المكلف، فيما لو قال قولًا أو عمل عملًا وفق عقيدته، والثاني مورد التقية المداراتية، وهي التي تجوز حتى في ظلّ انعدام الخطر، في حدود النأي عن أيِّ قولٍ أو فعل ربما قاد إلى حدوث التنافر وتخريب التعايش. وهذا ما يشير إلى حرص أئمة أهل البيت على توفّر أجواء الانسجام والتآلف في الأمة الإسلامية، بحيث لا يؤدي مجرد الاختلاف في فكرة، أو رأي فقهي، إلى التنافر.
إنّ من المفترض أن تكون الأمة مستوعبة لأجواء الاختلاف الفكري والعقدي، ومن المعلوم أنّ الأجواء الطبيعية هي التي تتيح الفرصة لأن يعلن الجميع عن أفكارهم، ويلتزمون أحكامهم الشرعية التي يؤمنون بها. ولكن ما عسى يفعل المؤمنون إذا كانوا يعيشون في أجواء لم ترتقِ بعد إلى هذا المستوى، جرّاء التعرض للقمع والضغوط، ومواجهة الأحادية المذهبية المسيطرة، كما هو الحال في أغلب العصور التي كان يعيش فيها أئمة أهل البيت وشيعتهم؟
الاقتداء بأخلاق الأئمة
من هنا يأتي الدافع الأساس لتوجيهات أئمة أهل البيت في أن يقتديَ بها شيعتهم. سيّما وأن أهل البيت كانوا يتربعون على القمة في الأخلاق والتعامل بالتي هي أحسن حتى مع المسيئين لهم، ولعلّ من أغرب ما نراه أن يسهب البعض في الحديث نظريًّا عن أخلاق ومناقبيات أئمة أهل البيت، لكن هؤلاء المتحدثين ربما كانوا أبعد ما يكونون عن تلك الأخلاق والمناقبيات ساعة الممارسة الواقعية، خاصة وأنّ أروع تجليات مناقبيات أئمة أهل البيت هي في تعاملهم مع المسيئين لهم!
وقد ورد في هذا السّياق عن أبي بكر الحضرمي، وهو من أصحاب أبي جعفر الباقر ، قال: قال لي أبو جعفر: «إنّي أراكَ لَو سَمِعتَ إنسانًا يَشتِمُ عَليًّا فاستَطَعتَ أن تَقطَعَ أنفَهُ، فَعَلْتَ؟ قُلتُ: نَعَم. قالَ: فَلا تَفعَل! ثُمَّ قالَ: إنّي لَأَسمَعُ الرَّجُلَ يَسُبُّ عَليًّا وأستَتِرُ مِنهُ بِالسّارِيَةِ، فَإذا فَرَغَ أتَيتُهُ فَصافَحتُهُ»[6] . ومضمون رسالة الإمام الباقر لكل شيعي متحمّس يوشك أن ينفلت ويفقد سيطرته على أعصابه، أنّ أئمتك لم يكونوا هكذا، وإنما كانوا على درجة عالية من ضبط الأعصاب والأخلاقيات العالية، وهم يريدون من شيعتهم أن يقتدوا بهم، ويكونوا على هذا النحو أيضًا.
ويريد أئمة أهل البيت من شيعتهم أن يكونوا حملة رسالتهم إلى الناس. ولا يمكن لصاحب غلظة، وأخلاق جافة، أن يقوم بحمل رسالة سامية، حتى لو كان رسول الله نفسه، لذلك خاطب تعالى نبيه الكريم بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. إنّ أئمة أهل البيت يريدون من شيعتهم أن يصلوا إلى عقول وقلوب الناس، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلّا بالتمثل بأفضل الأخلاق وأحسن الآداب.
لقد أدرك أئمة أهل البيت الآثار المترتبة على أجواء القمع التي يعيشها شيعتهم. وما قد ينعكس على نفوسهم من توتر وانفعال، فهم بشر يتأثرون بما يجري عليهم وما يدور حولهم، فإذا ما ووجهوا بقمع واضطهاد، أو تمييز طائفي، فإنّ جميع ذلك مما يساهم في استفزازهم ودفعهم نحو الانتقام والردّ على الإساءة، لكنهم لا يريدون لشيعتهم أن يستجيبوا لأجواء الاستفزاز، بل يريدون منهم ضبط أعصابهم إلى أقصى الحدود.
وصية الأئمة حسن التعايش
وتتضمن أمّهات كتب الشيعة عشرات الروايات الصحيحة التي تتحدث عن حسن العشرة مع الآخرين، غير أنّ ما يجري في واقع الحال من قبل بعض المتطرفين هو التجاهل التام لهذه التوجيهات الأخلاقية المتكررة وذات الأسانيد الصحيحة، لصالح نصوص أخرى، إنْ صحّ سند بعضها، فقد تكون ضمن ظروف استثنائية. فقد جاء عن الحسين بن سعيد عن أبي علي في حديث قال: «قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق: إنّ لنا إمامًا نخالفه وهو يبغض أصحابنا كلهم، فقال: ما عليك من قوله، والله لإن كنت صادقًا، لأنت أحقّ بالمسجد منه، فكن أول داخل وآخر خارج وأحسن خلقك مع الناس وقل خيرا»[7] ، وبذلك يحثّ الإمام الصادق أصحابه على ملازمة الصلاة خلف امام المسجد، وإبداء حسن الخلق وإن كان هذا الإمام ينضح بالبغض لهم. وهذا ما ينسجم تمامًا مع توجيهات القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
إنّ أئمة أهل البيت طالما أكّدوا أهميّة ضبط الأعصاب وهم يدركون كلّ الإدراك ما يعيشه شيعتهم من أجواء استفزازية. والغريب أنّ بعض الناس حين تنهاهم عن الدخول في المهاترات الطائفية يجيبونك بإلقاء المسؤولية على الطرف الآخر، وأنّ أولئك هم البادئون، أوَلم يكن الأئمة يرون ويعلمون عن هذه الاستفزازات القبيحة التي طالت شيعتهم في زمانهم، وقد كانت بأضعاف ما هي عليه في هذه العصور!، لكنهم مع ذلك لم يطلقوا العنان للانفعالات عند أتباعهم وشيعتهم وإنما قيّدوهم بأخلاق الدين والرسالة.
حالات الغلو والمزايدة
لقد أدرك أئمة أهل البيت أنّ هناك من الأتباع من تنتابهم حالات من المزايدة على حبّهم، والاندفاع نحو الغلو فيهم. ولربما كانت هذه ظاهرة اجتماعية طبيعية تتعرّض لها كلّ المجتمعات الدينية، من خروج مغالين مزايدين يتبنّون بعض القناعات والأفكار المغالية، ويسعون لكسب الأتباع، وتحقيق المكانة الاجتماعية، ولا شيء يجتذب الأتباع أكثر من دغدغة المشاعر، ولا سبيل أسرع من المزايدة على الآخرين، حتى لو كان على حساب صورة مذهب أهل البيت ومصالح شيعتهم.
وهذا ما تحدّث عنه الأئمة، فقد ورد في عيون أخبار الرضا أنّ الإمام الرضا خاطب أحد أصحابه، وهو إبراهيم بن أبي محمود، قال: «يا ابنَ أبي مَحمودٍ، إنّ مُخالِفينا وَضَعوا أخبارًا في فَضائِلِنا وجَعَلوها عَلى أقسامٍ ثَلاثَةٍ: أحَدُهَا الغُلُوُّ، وثانيهَا التَّقصيرُ في أمرِنا، وثالِثُهَا التَّصريحُ بِمَثالِبِ أعدائِنا، فَإِذا سَمِعَ النّاسُ الغُلُوَّ فينا كَفَّروا شيعَتَنا، ونَسَبوهُم إلَى القَولِ بِرُبوبِيَّتِنا. وإذا سَمِعُوا التَّقصيرَ اعتَقَدوهُ فينا، وإذا سَمِعوا مَثالِبَ أعدائِنا بِأَسمائِهِم ثَلَبونا بِأَسمائِنا، وقَد قالَ اللّه ُ عز و جل: ﴿وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[8] .
وأورد الطبرسي في الاحتجاج كتابًا خرج عن صاحب الزمانP كتبه لمحمد بن علي بن هلال الكرخي ردًّا على الغلاة قال: «يا مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ، قَد آذَانَا جُهَلَاءُ الشِّيعَةِ وَحُمَقَاؤُهُم، وَمَن دِينُهُ جَنَاحُ البَعُوضَةِ أَرجَحُ مِنهُ»[9] ، فهناك بحسب الرواية جهلاء من أتباع أهل البيت يؤذون أهل البيت بجهلهم، وهناك من الأتباع من لديهم من العلم شيء لكنهم حمقى، لا يحسنون وضع الأمور في نصابها، أما الصنف الثالث فهم ممن لا دين لهم رغم ما يظهرون من مزايدة وغلو، وأمثال هؤلاء وفقًا للرواية لا يعدل تديّنهم وزن جناح بعوضة، غير أنّهم شديدو الأذى لأهل البيت نتيجة المزايدة في حبّهم، وعلى النحو الذي يثير عليهم الأعداء.
وفي توجيه للإمام الصادق أورده الطوسي في الأمالي، ونقله المجلسي في بحار الأنوار، أنه قال: «احذَروا عَلى شَبابِكُمُ الغُلاةَ لا يُفسِدونَهُم، فَإِنَّ الغُلاةَ شَرُّ خَلقِ الله»[10] ، وذلك لما يعلمه الإمام من الحماس والاندفاع الكبير الذي ينتاب الشباب، فتراهم سرعان ما ينجرّون خلف الدعوات الانفعالية والعاطفية.
التطرّف من الجانبين وقود الفتنة
إنّ الأمة الإسلامية باتت تعيش ظرفًا خطيرًا وحسّاسًا في هذا العصر. وهناك إرادة حثيثة لإسقاط الأمة في أتون الحروب الطائفية المذهبية، وليس هناك من وقود أشدّ فتكًا، لاستدامة هذه الحروب، من وجود ثلة من المتطرفين على هذا الجانب، وما يناظرها على الجانب الآخر. فإذا خرج من بين أهل السنة إرهابيون متطرفون يكفّرون الشيعة ويسفكون دماءهم، فلا بُدّ من أن يخرج لدى الشيعة من يحترف الاستفزاز لأهل السنة، لإعطاء المبرّرات للتوجّهات الإرهابية والمتطرفة.
إنّ من الصحيح أنّ الجماعات الإرهابية كانت ولا تزال قائمة، لكن استدامة ولوغها في الحرب الطائفية تتطلب وقودًا، ولا شيءَ أمضى من بروز التطرف في جانب، ورد الفعل من الجانب الآخر، لتغرق الأمة بعدها في أوحال الطائفية. إنّ على الواعين من أبناء الأمة، من السنة والشيعة، أن يتّقوا الله، وأن يتحملوا مسؤوليتهم تجاه ما يجري من نزاع طائفي مدمّر، وأن يضعوا حدًّا للتطرف من الجانبين، وأن ينشروا فكر التسامح والألفة والمحبّة بين أبناء الأمة، وأن ينأوا بأنفسهم عن الاستجابة للاستفزازات. لا شكّ بأنّ الطريق شائك وعر، والعقبات كثيرة، لكن ثواب الله والأمل والثقة به سبحانه هو زاد المخلصين.
جاء عن الإمام الحسن العسكري في وصيته لشيعته أنه قال: «أُوصيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَالْوَرَعِ في دينِكُمْ وَالاِْجْتَهادِ لِلّهِ وَصِدْقِ الْحَديثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ إِلى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ مِنْ بَرٍّ أَوْ فاجِر وَطُولُ السُّجُودِ وَحُسْنِ الْجَوارِ. فَبِهذا جاءَ مُحَمَّدٌ، صَلُّوا في عَشائِرِهِمْ وَاشْهَدُوا جَنائِزَهُمْ وَعُودُوا مَرْضاهُمْ وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذا وَرَعَ في دينِهِ وَصَدَقَ في حَديثِهِ وَأَدَّى الأَمانَةَ وَحَسَّنَ خُلْقَهُ مَعَ النّاسِ، قيلَ: هذا شيعِيٌّ، فَيَسُرُّني ذلِكَ. اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا زَيْنًا وَلا تَكُونُوا شَيْنًا، جُرُّوا إِلَيْنا كُلَّ مَوَدَّة، وَادْفَعُوا عَنّا كُلَّ قَبيح، فَإِنَّهُ ما قيلَ فينا مِنْ حَسَنٍ فَنَحْنُ أَهْلُهُ، وَما قيلَ فينا مِنْ سُوءٍ فَما نَحْنُ كَذلِكَ»[11] .