المباهاة والتفاخر الديني
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾[سورة النساء، الآية:123].
من مظاهر حبّ الإنسان لذاته، ومن تجلّيات أنانيته، ممارسته للمباهاة والتفاخر، حيث يباهي الآخرين، ويدّعي بأنه أفضل وأحسن منهم، وهذا مظهر من مظاهر غريزة حبّ الذات.
من المفيد أن يتنافس الإنسان مع الآخرين، وأن يتطلع ليصبح أفضل منهم، لكن السبيل إلى تحقيق ذلك هو العمل والإنجاز والعطاء، وليس عبر الادّعاءات الوهمية والخيالية، إنّ الله سبحانه وتعالى خلق الدنيا دارًا للتنافس، يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [سورة الملك، الآية: 2].
ويقول تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ﴾[سورة المطففين، الآية: 26].
لكن الكسالى والمتخلفين يعوضون تقصيرهم في العمل والإنجاز، بالتفاخر والمباهاة، بانتماءاتهم العرقية والقبلية والدينية.
المباهاة بالانتماء الديني
ترى البعض يقول بتفاخر: (ديني أحسن دين) و (مذهبي أصح مذهب)!
المهم أن يكون عملك أحسن عمل، وأن يكون إنجازك أحسن إنجاز، أما أنّ قبيلتك أو دينك أفضل، فهذا لا يجدي؛ لأنّ التباهي بالانتماء الديني مذموم عند الله تعالى.
حتى لا تصبح الأديان والمذاهب وكَأنها مجرد ميدان تفاخرٍ وتباهٍ.
المسلم يعتقد أنّ دينه هو الحق، لكن عليه أن يعكس ذلك في مجال عمله، أن يكون واقعه مطابقًا للحق، وأن تكون إنجازاته أفضل من إنجازات الآخرين، أما إذا كان المسلم يعيشُ واقعًا متخلفًا بائسًا، فماذا يجدي التفاخر؟!
حين تفتخر كمسلم بأنك أفضل من الكفار، لكنهم يعيشون واقعًا أفضل من الواقع الذي تعيشه، وينجزون عملًا أفضل لمسيرة الحياة، فماذا تفيدك المباهاة؟!
ذكروا أنّ أحد سلاطين الدولة العثمانية حينما جاؤوا له بتقارير تنبئ أنّ أوروبا أنتجت أسلحة، وطورت آليات عسكرية، وتطورت علميًّا وتكنولوجيًّا، التفت إليهم قائلًا: لا تهتموا، الإسلام يعلو ولا يعلى عليه!!
بعد هذه الاستهانة جاءت أوروبا وزحفت على العالم الإسلامي وقسمته إلى دويلات، وأسقطت الدولة العثمانية، نعم (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)، لكن يعلو بحجته وبمنطقه، ولا يعلو كواقع عملي إلّا بجهد أبنائه ونشاطهم وإنجازاتهم.
وكذلك على الصعيد المذهبي، لا زالت المناظرات تأخذ مساحة كبيرة من جهد أبناء كلّ طائفة، (الشيعي يقول مذهبي أصح، والسني يقول مذهبي أصح) وكلهم يعيشون في قعر الهاوية، من فقر وبؤس وقهر وتخلف!!
ولذلك ورد عن رَسُولُ اللهِ أنه قَالَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾[سورة الزخرف، الآية: 58]» [1] ، وفي الأثر عن معروف الكرخي: إذا أراد بعبد خيرًا فتح عليه باب العمل وأغلق عليه باب الجدل وإذا أراد بعبد شرًّا أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الجدل[2] .
ما فائدة التفاخر بالمذاهب والأديان؟!
التفاخر الحقيقي هو بالعمل، والمباهاة الحقيقية بالإنجاز.
الآية الكريمة جاءت لتردع عن هذا السلوك المتخلف، ولتؤكد على أنّ واقع الإنسان رهن بعمله وكسبه، خيرًا أو شرًّا ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾.
الروايات تقول: إنّ هذه الآية نزلت بسبب مباهاة وتفاخر حصل بين المسلمين وبين أهل الكتاب.
كما ورد عن السّديّ قَالَ: التقى نَاس من الْـمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى فَقَالَت الْيَهُود للْمُسلمين: نَحن خير مِنْكُم ديننَا قبل دينكُمْ، وَكِتَابنَا قبل كتابكُمْ، وَنَبِينَا قبل نَبِيكُم، وَنحن على دين إِبْرَاهِيم، وَلنْ يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَت النَّصَارَى مثل ذَلِك.
فَقَالَ الْمُسلمُونَ: كتَابنَا بعد كتابكُمْ، وَنَبِينَا بعد نَبِيكُم، وَدِيننَا بعد دينكُمْ، وَقد أمرْتُم أَن تتبعونا، وتتركوا أَمركُم، فَنحْن خير مِنْكُم، نَحن على دين إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق، وَلنْ يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ على ديننَا، فَردّ الله عَلَيْهِم قَوْلهم فَقَالَ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ...﴾ [3] .
أي لا تعيشوا الأوهام والأماني ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾ من يكون عملهُ سيئًا فإنّ واقعه نتاج عملهِ، سواء كان في الدنيا أو الآخرة، فالآية الكريمة جاءت لكي تردع التباهي بالانتماء الديني والمذهبي.
حاكمية القانون
وهناك بعد آخر يمكننا أن نفهمه من الآية الكريمة، وهو التأكيد على حاكمية القانون، فالناس أمام القانون سواسية، انتماؤك لا يعطيكَ حصانة أمام القانون، في المجتمع الإسلامي إذا أقدم إنسان متديّن على جريمة، فإنّ اعتقاده بالدين .. لا يعفيه من العقوبة، ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾؛ لأنّ الحدود تطبق على الجميع، والقانون يحكم الجميع، ولا يتصور إنسان أنّ انتماءه للدين ينبغي أن يعفيه من مسؤولية أعماله وتصرفاته، كلّا!
روي «أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ـ وقد أمر رسول الله بقطع يدها ـ، فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»[4] .
هكذا فالآية الكريمة تؤكد أنّ لا حصانة لأحدٍ أمام القانون، من أيِّ قبيلةٍ كان، ومهما كان التزامه الديني؛ لأنّ القانون يطبّق على الجميع.
الانتماء الديني لا يوفر حصانة يوم القيامة
يظنّ البعض أنّ مجرد انتماءه الديني أو المذهبي يوفر له حصانة يوم القيامة، خاصّة أنّ بعض الروايات المتداولة عند الناس تكرّس في نفوسهم هذه الفكرة، حيث يفهمونها مقطوعةً عن سياقاتها ـ إن صحت ـ وبعض الأحيان تتحول إلى حالة من المأثور الشعبي في الأشعار والأناشيد واللطميات، لتعزز هذا الفهم الخطأ. فيقول البعض إنّ الموالي والمحب لأهل البيت آمن من أيّ خطر يوم القيامة.
وكما يقول الشاعر:
سودت صحيفة أعمالي
ووكلت الأمر إلى حيدر!!!
وهذا تفكير خطأ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾ ولا ينبغي أن ينخدع أحد بالأوهام والتمنيات، يقول تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ [سورة النساء، الآية:123].
والخطاب للمسلمين ولأهل الكتاب.
أين موقع الشفاعة والمغفرة؟
هناك فرق بين حالين، إنسانٌ تمرّ عليه حالة ضعف، فيقارب معصية من المعاصي، ثم يدركه الندم ويتوب إلى الله، مثل هذا تدركه رحمة الله، وينال الشفاعة، لكن أن يكون نهجه وخطه خط المعصية، يعيش المعاصي مصرًّا عليها، هذا لا تدركه الشفاعة، وإنّ الذي يمارس المعصية اتّكاءً على الشفاعة أو المغفرة هذا لا تناله الشفاعة ولا المغفرة.
وهذا ما يؤكده قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [سورة النساء، الآيتان: 17-18].
وقد حذّر أئمة أهل البيت شيعتهم من أن يتكلوا على انتمائهم وحبّهم لهم ورجاء شفاعتهم، فيتعمدون التقصير في الطاعة والإصرار على المعصية.
ورد عن الإمام الباقر أنه قال لخيثمة الجعفي: «يَا خَيْثَمَةُ، أَبْلِغْ مَوَالِيَنَا: أَنَّا لَا نُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِلَّا بِعَمَلٍ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا وَلَايَتَنَا إِلَا بِالْوَرَعِ، وَأَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلًا، ثُمَّ خَالَفَهُ إِلى غَيْرِهِ»[5] .
إذ كيف يتحدث الإنسان عن عدالة الإمام علي ، ويفتخر بانتمائه إليه، ثم يمارس الظلم بحقّ الآخرين؟!!
وعنه أنه قال لمحمد بن مسلم: «لَا تَذْهَبْ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ، فَوَ اللهِ مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنْ أَطَاعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»[6] .
(لَا تَذْهَبْ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ) لا تستغفلوا أو تستدرجوا بالكلام الذي يسهل ارتكاب الذنوب اتّكاءً على الشفاعة أو غيرها من المبررات والعناوين.
البعض يعتقد أنّ ذنوبه ومعاصيه ستغفر؛ لأنه بكى على الإمام الحسين، أو لأنه زار الإمام الحسين ، هذا الكلام يحتاج إلى مراجعة وتأمل.
وكذلك ما يردده البعض من شعر يقول:
فإنّ النار ليس تمسّ جسمًا
عليه غبار زوّار الحسين
هذا الكلام لا تستطيع أن تأخذه على إطلاقه، إنّما الإنسان الملتزم المتقي إذا وقع في معصية اتفاقًا يغفر الله له، وتدركه شفاعة الحسين ، أما إذا كان طريقه ونهجه نهج معصية فهو لا يستحق الشفاعة، يقول تعالى: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾[سورة الأنبياء، الآية: 28].
هل يصح أن نأخذ بيت شعر ونحوله لقاعدة شرعية نستوحي منه سلوكنا؟ هذا ليس آية قرآنية أو حديثًا عن المعصوم، إنّ لزيارة الحسين والبكاء عليه فضلًا، وإن لمحبة أهل البيت فضلًا، لكن ذلك كله يجب أن يقترن بالعمل الصالح، أما إذا افتقد الإنسان العمل الصالح، وافتقد الورع فليس لهذه الأماني أيّ قيمة، إذا كان يتجرأ على معاصي الله عامدًا عالماً مصرًّا فكيف يتمنى الشفاعة؟! ولنضع نصب أعيننا وصية الإمام الصادق لعبدالله بن جندب: «يَا بنَ جُندَبٍ، بَلِّغ معاشِرَ شيعَتِنا وقُل لَهُم: لا تَذهَبَنَّ بِكُمُ المَذاهِبُ، فَوَاللهِ لا تُنالُ وَلايَتُنا إلّا بِالوَرَعِ»[7] .
نعم، من أقدم على المعصية في لحظة من لحظات الضعف، ثم ندم وتاب يتوب الله عليه، وتشمله المغفرة، أما أن يعيش هذه الفكرة وينطلق منها، فعليه أن يعلم أنّها فكرة خطأ، يردها القرآن وتردها أحاديث أهل البيت ، وفي رواية صريحة عن الإمام الباقر يقول لجابر بن يزيد الجعفي: «يا جابر، أيكتفي من انتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟! فواللّه ما شيعتنا إلّا من اتقى اللّه وأطاعه) [8] .
ينبغي أن نكونَ حذرين من بعض الأفكار التي تخالف نصّ القران، وصريح كلام أهل البيت ، وماذا نفعل إذا كان رسول الله يقول لنا بهذه الصراحة: «مَعَاشِرَ النَّاسِ! قَدْ حَانَ مِنِّي خُفُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدِي عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي أُعْطِهِ إيَّاهَا! وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ فَلْيُخْبِرْنِي بِهِ! مَعَاشِرَ النَّاسِ! لَيْسَ بَيْنَ اللَهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ شَيءٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْراً أَو يَصْرِفُ عَنْهُ بِهِ شَرًّا إلَّا العَمَلُ! أَيُّهَا النَّاسُ! لاَ يَدَّعِي مُدَّعٍ وَلاَ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَالَّذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيًّا لاَ يُنْجِي إلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ، وَلَوْ عَصَيْتُ لَهَويْتُ»[9] .
النبي على عظمته يقول لو عصيت لهويت، وهو معصوم لا يعصي الله، لكنه يقول لو عصيت لهويت! فليست هناك حصانة.
موعظة بالقول والسلوك
عن طاووسِ الفَقيهِ: رَأيتُ الإمامَ زينَ العابدينَ وهُو يَطوفُ مِن العِشاءِ إلَى السَّحَرِ ويَتَعبَّدُ، فلَمّا لَم يَرَ أحَدًا رَمَقَ السَّماءَ بِطَرْفِهِ، وقالَ: «إلهي، غارَت نُجومُ سَماواتِكَ، وهَجَعَت عُيونُ أنامِكَ، وأبوابُكَ مُفَتَّحاتٌ للسّائلينَ، جِئتُكَ لِتَغفِرَ لي وتَرحَمَني وتُرِيَني وَجهَ جَدِّي محمّدٍ في عَرَصاتِ القِيامَةِ». ثُمّ بَكى وقالَ: «وعِزَّتِكَ وجَلالِكَ، ما أرَدتُ بمَعصيَتي مُخالَفَتَكَ، وما عَصَيتُكَ إذ عَصَيتُكَ وأنا بِكَ شاكٌّ، ولا بِنَكالِكَ جاهِلٌ، ولا لِعُقوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، ولكنْ سَوَّلَت لِي نَفسي وأعانَني على ذلكَ سِترُك المُرخي بهِ علَيَّ، فالآنَ مِن عَذابِكَ مَن يَستَنقِذُني؟! وبِحَبلِ مَن أعتَصِمُ إن قَطَعتَ حَبلَكَ عَنّي؟! فوا سَوأتاهُ غَدا مِن الوُقوفِ بَينَ يَدَيكَ، إذا قِيلَ لِلمُخِفِّينَ: جُوزوا، ولِلمُثقَلينَ: حُطّوا، أمَعَ المُخِفِّينَ أجوزُ، أم مَعَ المُثقَلينَ أحُطُّ؟! وَيلي! كُلَّما طالَ عُمري كَثُرَت خَطاياي ولَم أتُبْ، أما آنَ لي أن أستَحيِيَ مِن ربِّي؟!»، ثُمّ بكى وأنشَأ يقولُ: «أتُحرِقُني بالنّارِ يا غايةَ المُنى؟! فأينَ رجائي؟! ثُمّ أينَ مَحبّتي؟! أتَيتُ بأعمالٍ قِباحٍ زَرِيّةٍ وما في الورى خَلقٌ جَنى كجِنايَتي!»، ثُمّ بكى وقالَ: «سُبحانَكَ تُعصى كأنّكَ لا تَرى، وتَحلُمُ كأنّكَ لَم تُعْصَ، تَتَوَدَّدُ إلى خَلقِكَ بحُسنِ الصَّنيعِ كأنَّ بِكَ الحاجَةَ إلَيهِم، وأنتَ يا سيِّدي الغَنِيُّ عَنهُم»، ثُمّ خَرَّ إلَى الأرضِ ساجِدًا. قالَ: فدَنَوتُ مِنهُ وشُلتُ بِرأسِهِ ووَضَعتُهُ على رُكبَتي وبَكيتُ حتّى جَرَت دُموعي على خَدِّهِ، فاستَوى جالِسًا وقالَ: مَنِ الّذي أشغَلَني عَن ذِكرِ ربِّي؟! فقلتُ: أنا طاووسٌ يا بنَ رَسولِ اللهِ، ما هذا الجَزَعُ والفَزَعُ، ونَحنُ يَلزَمُنا أن نَفعَلَ مِثلَ هذا ونَحنُ عاصُونَ جانُونَ؟! أبُوكَ الحُسينُ بنُ عليٍّ، واُمُّكَ فاطِمَةُ الزَّهراءُ، وجَدُّكَ رسولُ اللهِ ! قالَ: فالتَفَتَ إلَيَّ وقالَ: «هَيهاتَ هَيهاتَ يا طاووسُ، دَعْ عَنّي حَديثَ أبي واُمِّي وجَدِّي، خَلَقَ اللّهُ الجَنَّةَ لِمَن أطاعَهُ وأحسَنَ ولَو كانَ عَبدًا حَبَشيًّا، وخَلَقَ النّارَ لِمَن عَصاهُ ولَو كانَ ولَدًا قُرَشيًّا، أما سَمِعتَ قولَهُ تعالى: ﴿فإذا نُفِخَ في الصُّورِ فلا أنْسابَ بَيْنَهُم يَوْمَئِذٍ ولا يَتَساءلونَ﴾ واللهِ، لا يَنفَعُكَ غَدًا إلّا تَقدِمَةٌ تُقَدِّمُها مِن عَمَلٍ صالِحٍ»[10] .
واقع المسلمين إنما يصنعونه بعملهم، إذا كانوا غير جادين في حياتهم ولا يسيرون حسبَ السنن الإلهية فسيكون واقعهم متخلفًا، وإن تباهوا بأديانهم.
في الماضي كانت الحقائق مغيّبة لا تنشر، أما الآن فالمؤسسات الدولية تنشر التقارير بالأرقام والإحصاءات، وتكشف نسبة التقدم العلمي، وحالة الفقر والأمراض، وأزمات الوضع الاقتصادي، وواقع الظلم والفساد، فلا ينفعنا أن نعيش حالة التباهي بالدين أو المذهب، هذا بالنسبة للدنيا وكذلك الأمر بالنسبة للآخرة أيضًا، إذ «لاَ يُنْجِي إلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ» كما قال رسول الله .