رفض المعصية ورحمة العصاة
ورد عن الإمام علي أنه قال: «وإِنَّمَا يَنْبَغِي لأَهْلِ الْعِصْمَةِ والْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ، أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ والْمَعْصِيَةِ، ويَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ، والْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ»[1] .
تتحرك مشاعر الإنسان المؤمن بشكل تلقائي رفضًا للذنوب والمعاصي، فطبيعة الإيمان الصادق تنفر من الذنوب والأجواء الموبوءة، إذ المؤمن لا يمرّ على المنكرات والمخالفات الشرعية مرور الكرام، بل ينكرها، ويرفضها ويتمنى زوالها، وذلك لعدة أمور:
أولًا: لأنّ ا لمؤمن يعلم أنّ المعاصي والذنوب تمثل نوعًا من الجرأة والتمرّد على أوامر الله تعالى، وأنّ ذلك يسخط الله، والنصوص الدينية تدعو الإنسان المؤمن أن يغضب لغضب الله.
ورد عن الإمام الباقر : «أوحَـى اللّه ُ تـعالى إلى شُعَيبٍ النبيِّ: إنّي مُعَذِّبٌ مِن قومِكَ مائَةَ ألفٍ: أربعينَ ألفًا مِن شِرارِهِم وسِتّينَ ألفًا مِن خِيارِهم، فقالَ: يا ربِّ، هؤلاءِ الأشرارُ، فما بالُ الأخيارِ؟! فَأوحَى اللهُ عزّ وجلّ إلَيهِ: داهَنوا أهلَ المعاصِي فلَم يَغضَبُوا لِغَضَبِي»[2] .
كانوا يمرّون على المعاصي مرور الكرام، فلا يهتمون، ولا يسخطون لما يسخط الله تعالى، والمؤمن لا ينبغي أن يكون هكذا.
ثانيًا: من طبيعة المؤمن أنه يريد الخير والصلاح لغيره كما يريده لنفسه، وارتكاب المعاصي والذنوب من قبل الآخرين خسارة وحرمان لهم، لذلك يتألم وينزعج لحالهم، فهو لا يحمل صفة اللامبالاة تجاه ارتكاب الآخرين للمعاصي.
ثالثًا: المؤمن يدرك قبح المعاصي والذنوب، يعلم أنّ الذنب والمعصية شيء قبيح، ومن الطبيعي أن ينفر ويشمئزّ منها، كما ينفر الإنسان من المناظر السيئة والروائح القذرة، فهو ذوق عام يجب أن يكون في المجتمع، والذوق العام السليم هو الذي يتقزّز وينفر من التصرفات السيئة.
حينما ترى أشخاصًا يبصقون في الشارع، أو يرمون المناديل الورقية والعلب الفارغة في الأماكن العامة، ترفض ذلك نفسيًّا، وهذا هو الذوق السليم، الذي ينبغي أن يكون سائدًا في المجتمع تجاه الذنوب والمعاصي.
رابعًا: إنّ عدم المبالاة تجاه المعاصي والذنوب، يعني إفساح المجال لها لكي تنتشر، فأيّ سلوك سيئ لا يُستنكر ولا يُواجه ينتشر ويسود في المجتمع، وبالتالي قد تصل آثاره إلى الإنسان المؤمن نفسه، كما قد تصل إلى عائلته وأقاربه، لذلك لا بُدّ للمؤمن أن يكون نافرًا منزعجًا من حصول الذنوب والمعاصي، وهي المرحلة الأولى، حيث ينكرها في قلبه، ورد عن رسول الله أنه قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِه، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيمَانِ»[3] .
أما إذا لم يرفض الإنسان الذنب من الناحية القلبية فإنّ ذلك يعني عدم توفر أدنى درجات الإيمان في نفسه!
وفِي حديث آخر عنه : «مَنْ شَهِدَ أَمْراً فَكَرِهَهُ كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهُ، وَمَنْ غَابَ عَنْ أَمْرٍ فَرَضِيَهُ كَانَ كَمَنْ شَهِدَهُ»[6] .
وورد عن علي : «اِنَّما يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضا وَالسُّخْطَ، فَمَنْ رَضِيَ أَمْراً فَقَدْ دَخَلَ فيهِ، وَمَنْ سَخَطَهُ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهُ»[4] ، وعن الإمام الصادق : «حَسْبُ الْمُؤْمِنِ عِزّاً إِذَا رَأى مُنْكَراً أَنْ يَعْلَمَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مِنْ قَلْبِهِ إِنْكَارَهُ»[5] .
التعامل مع العصاة
ينبغي أن نفرّق بين الرفض القلبي للمعصية، والتعامل مع العصاة، فهو أمر دقيق يجب توخّي الحذر فيه، فليس كلّ العصاة والمذنبين في كفّة واحدة، ليتم التعامل معهم بأسلوب واحد، كما أنّ الظروف الاجتماعية تختلف من عصرٍ لآخر ومن مكانٍ لآخر، فقد يكون العاصي جاهلًا، وقد يكون غافلًا، وقد يكون ظرفه ملتبسًا، وقد تصدر منه المعصية اتفاقًا، بخلاف ما إذا كان سلوكًا دائمًا، وقد يكون متجرئًا معاندًا، أو مستجيبًا لأجواء سائدة، كما يختلف الحال بين كونه متسترًا بمعصيته أو متجاهرًا بها.
هذا الاختلاف في الحالات ينتج عنه اختلاف في أسلوب التعامل والتعاطي.
وهناك مبدأ تؤكّد عليه التعاليم الدينية، وهو ألّا يتحول الموقف من المعصية إلى موقف حقد ذاتي على شخص العاصي، وتوجه للانتقام والتشفي منه، فالمعصية حالة مرضية، والعاصي ـ في أغلب الأحيان ـ كالمريض المحتاج إلى المساعدة للتعافي وتجاوز المرض، وفي هذا السياق تأتي كلمة أمير المؤمنين : (وإِنَّمَا يَنْبَغِي لأَهْلِ الْعِصْمَةِ والْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ، أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ والْمَعْصِيَةِ، ويَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ ـ والْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ).
أن تنظر إلى العصاة نظرة رحمة وشفقة، لا نظرة حقد!
أحد أصحاب الإمام موسى الكاظم يسأله: الرَّجُلُ مِن مَواليكُم يَكونُ عارِفاً يَشرَبُ الخَمرَ ويَرتَكِبُ الموبِقَ مِنَ الذَّنبِ، نَتَبَرَّأُ مِنهُ؟
فَقالَ: تَبَرَّؤوا مِن فِعلِهِ ولا تَتَبَرَّؤوا مِنهُ، أحِبّوهُ وأَبغِضوا عَمَلَهُ[7] .
عمله مبغوض، لكنه إنسان نتعامل معه باحترام، له حقوقه، بل نسعى لمساعدته واستقطابه والتأثير عليه، بعض المتدينين قد يعيش وضعًا نفسيًا متأزّمًا، ويعكس ما يعانيه على تعامله مع الآخرين باسم الدين وعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!!
الدين لا يريد منّا أن نتعامل بجفاء وغلظة مع الشخص المذنب، بل يدعو إلى الرحمة والشفقة به.
قصة معروف الكرخي
كان معروف الكرخي من الصالحين الأولياء، وفِي سيرته حديث عن زهده وورعه وتقواه، ينقل أحد أصحابه موقفًا جميلًا عنه، يقول: (مرَّ بِنَا أحداث شباب في زورق في نهر دجلة يضربون الملاهي ويشربون، فقال أحد جُلَّاسه: يا إمام، اُدعُ الله عليهم!
فرفع معروف رحمه الله يديه إلى السماء وقال: «إلهي وسيدي!، كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة».
فقال له أصحابه: إنّما قلنا لك: ادعُ عليهم. وكيف تدعو لهم بهذا الدعاء؟!
فقال: نعم، إذا فرَّحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا، ولم يضرّكم شيء) [8] .
أي إنّهم إذا توفقوا للتوبة، وتاب الله عليهم دخلوا الجنة.
وفي الحديث أنَّ رَسُولَ اللهِ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : اضْرِبُوهُ، فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللهُ!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ، وَلَكِنْ قُولُوا رَحِمَكَ اللهُ»[9] .
وفي دعاء الإمام زين العابدين : «يا إلهَ الْحَقِّ: ارْحَمْ دُعاءَ الْمُسْتَصْرِخِينَ، وَاعْفُ عَنْ جَرائِمِ الْغافِلِينَ، وَزِدْ فِي إحْسَانِ الْمُنِيبِينَ يَوْمَ الْوُفُودِ عَلَيْكَ يا كَرِيم»[10] .
هذا هو التوجيه الديني، يريد أن يعمر قلب الإنسان بالشفقة والرحمة حتى على المذنبين، فالمصلح يتمنى صلاح المذنب، ويسعى في إنقاذه وتوبته، ولا يتناسب ذلك مع الحقد عليه!
المصلح كالطبيب الذي يريد أن يعالج المريض، وهل يكون ذلك وقلبه يغلي بالحقد عليه؟!!
من جهة أخرى، على المؤمن أن يبذل جهدًا في استقطاب الآخرين إلى منهج الاستقامة والصلاح، ولا يتحقق ذلك إذا كان متشنجًا منفعلًا، أو إذا تعامل بشدة وقسوة!
كلمة للآباء
في هذا العصر الذي تكثر فيه جهات الاستقطاب، ويتفننّ أصحاب الدعوات السيئة في جذب الشباب إلى الفساد والرذيلة، على الآباء أن يقتربوا من أبنائهم، ويستقطبوهم بالكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة.
وإذا صدر خطأ من الابن أو البنت، علينا أن نعالج الموقف بشيء من الحكمة واللين والشفقة؛ لأنّ حالة التشنج والقسوة مدعاة للنفور والتمادي، وقد تدفع إلى الارتماء في أحضان الفساد والرذيلة.
إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات، لكنّ هذه الفريضة لها شروط وضوابط، فلا ينطلق الإنسان من غرائزه وعقده الشخصية الذاتية، وإنّما يتقيد بالآداب والتعاليم والأخلاق الشرعية، أو لم يقل الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.
فلا مجال للمزايدة على الله سبحانه وتعالى، فقد خلق الخلق في هذه الحياة وأعطاهم حريتهم حتى يمتحنهم ويبتليهم، وعلينا حينما نغضب لله، أن نكون ملتزمين بالتعاليم والآداب التي شرعها الله سبحانه وتعالى.
إنّ المؤمن يرفض المعصية بقلبه وفكره وسلوكه، لكنه يرحم العصاة ويشفق عليهم، فلا ينبغي أن يتعامل مع العصاة والمذنبين بالشدة والقسوة، بل عليه أن يتجنب الآثار السلبية، ويحصّن نفسه، ويقوّي حالة الالتزام والتقوى في شخصيته، فلا يتأثر بأوضاع العصاة والمذنبين، كما عليه أن يسعى لمساعدتهم وإنقاذهم وذلك بأساليب الجذب وليس بالطرق المنفرة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإيّاكم للالتزام بمكارم الأخلاق.