من الإيثار التبرع بالدم
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[سورة الحشر، الآية:9]
أن يعطي الإنسان للآخرين مما يزيد على حاجته، فذلك هو الإحسان والجود في الحدّ الطبيعي، الذي اعتبره الدين أنه القدر المطلوب من الإنفاق، كما يقول تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾، أي الزيادة عن حاجتهم.
لكنّ المستوى الأعلى والحدّ المثالي هو أن ينفق الإنسان مما يحتاج، فيقدم حاجة الآخرين على حاجته، وهو معنى الإيثار، فالشخص المُؤْثر يقدِّر أن حاجة الغير أشدّ من حاجته، فيؤثر الآخرين على نفسه، وهذا ما تقصده الآية الكريمة في صفات المؤمنين الكُمَّل ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، والخصاصة هي الحاجة.
ورد عن الإمام علي أنه قال: «الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان»[1] .
وفي كلمة أخرى عنه : «الإيثار أفضل عبادة وأجل سيادة»[2] .
الإنسان المؤمن يريد أن يتعبّد لله سبحانه، وقد أَلِف أنّ التعبد يكون بالصلاة والصوم والحج وما أشبه، لكن الإمام هنا يلفت نظر المؤمن إلى أن تقديم حاجة الغير على النفس من أفضل العبادات.
يُروى أنّ أمير المؤمنين عليًّا اشترى ثوبًا فأعجبه فتصدق به، وقال: سمعت رسول الله يقول: «من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة الجنة»[3] .
ومما ينقله الرواة حول سبب نزول الآية الكريمة ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، أنه: (أُهْدِيَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله رَأْسُ شَاةٍ، فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا مِنَّا، فَبَعَثَ بِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ وَاحِدٌ إلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا تِسْعَةٌ أَهْلُ أَبْيَاتٍ، حَتَّى رَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾[4] .
وفي رواية أخرى أنّ هذه الآية نزلت في مقاتلي غزوة أحد، حيث إنّ سبعة أشخاص جرحوا في المعركة، وقد أنهكهم العطش، فجيء بالماء لأحدهم، فأبى الأول أن يشرب وأومأ إلى صاحبه، وكلما ذهب الساقي إلى جريح أشار إلى من بجواره، يؤثره على نفسه مع شدّة عطشه، إلى أن وصل إلى الأخير، فوجده قد فارق الحياة، ثم رجع إلى الأول فوجده قد فارق الحياة أيضًا، حتى انتهى إليهم جميعًا، وهم موتى، فأثنى الله تعالى على إيثارهم[5] .
نموذج للإيثار
تعرّفت على رجل يعتبر نموذجاً للإيثار، بعد أن توفي والده، خلَّف تركة قليلة لخمسة أبناء، وصاحبنا هو الابن الأكبر، فقرّر أن يوفر لكلّ واحد من إخوته مسكناً خاصاً، فصار يعمل ويكدح ويوفر المال لتحقيق هذا الهدف، فلما تمكن من توفير المال اللازم بنى بيتًا لأحدهم، ثم أخذ يوفر المال حتى بنى للثاني، وهكذا إلى الرابع، فقد آلى على نفسه ألّا يبني له بيتًا شخصياً حتى يبني لكلّ إخوانه، وهذه حالة نادرة من الإيثار.
أن يدرّب الإنسان نفسه ويهيئها لتقديم حاجة الآخرين على النفس، تلك منزلة رفيعة، لا يُلقّاها إلّا ذو حظ عظيم.
البعض تمنعهم أنانيتهم المفرطة من تقديم الخدمات اليسيرة العادية، تراه لا يتنازل عن مجلسه لرجل مريض أو كبير في السن، أو عند ركوب الطائرة، أو إعطاء حقّ المرور لشخص يريد الانعطاف بسيارته، وربما يبرر لنفسه بضرورة تطبيق النظام!.
أحياناً تتعطل الحركة المرورية لعشرات السيارات، بسبب شخص لا يسمح أن يُقدّم الآخرين على نفسه!
ينبغي للإنسان أن يربي نفسه على الاهتمام بحاجات الآخرين وألّا يفكر في ذاته فقط.
التبرع بالدم
المصداق المعروف والبارز هو أن يؤثر الإنسان الآخرين على نفسه من إمكاناته المادية المالية، من مال أو طعام، لكن في هذا العصر قد يكون التبرع بالدم من أهم مصاديق الإيثار.
الدم حاجة كبيرة للإنسان، وخاصة عند المرض وحالات الإصابات والحوادث، فالدم لا يمكن إنتاجه إلّا من خلال جسم الإنسان، ولا يتوفر من مصادر أخرى، وفي الماضي كان الناس يموتون بسبب حاجة أجسامهم إلى الدم!
أمّا الآن ومع تقدّم العلم فقد أصبح نقل الدم إلى الجسم المريض ميسورًا، لكن ينبغي للناس أن تكون لديهم روحية التبرع بشيء من دمهم للمرضى والمحتاجين.
علمًا بأنّ التبرع بالدم لا يسبب خطراً ولا ضرراً على صحة الإنسان، فالإجراءات المتبعة قبل أخذ الدم، تقضي بفحص التبرع للتأكد من سلامته وإمكانيته للتبرع، وهي من فوائد التبرع، حيث يطمئنّ المتبرّع على سلامته وخلوّه من بعض الأمراض.
ويؤكد المختصون في هذا المجال أنّ بإمكان الإنسان الذي يتمتع بصحة جيّدة أن يتبرع بالدم كلّ (56يوماً) أي كلّ شهرين على ألّا يزيد ذلك على خمس مرات في السنة.
نسبة التبرع بالدم
يتحدث المختصون في المملكة، وفي كثير من البلدان العربية أن نسبة التبرع بالدم التطوعي قليلة، حيث تصل إلى (40%) فقط، أما النسبة الباقية ((60% فتأتي لسدّ حاجة مريض من الأقارب، أو كجزء من إجراءات الحصول على رخصة قيادة السيارة، بينما في مختلف بلدان العالم الغربي تصل نسبة التطوع إلى (100%)!
في تلك المجتمعات يتبرع الإنسان بالدم بشكل طوعي دون وجود حاجة ملزمة له أو لأحد أفراد أسرته[6] .
من فوائد التبرع بالدم
عادة ما يكون مقدار التبرع بالدم (450مل) وهو عبارة عن (8%) من مجمل الدم الموجود في الجسم، ويتمكن جسم الإنسان من تعويض هذا المقدار من الدم خلال (12 ساعة)، حيث يستعيد الجسم ما فقده من دم، ويؤكد الأطباء أنّ التبرع بالدم له فوائد صحية، منها تنشيط الدورة الدموية، والتقليل من احتمال الإصابة بأمراض القلب وانسداد الشرايين، وكذلك إجراء الفحوص التي تكشف للإنسان عن وضعه الصحي من خلال عملية التبرع بالدم.
الحالات التي يمنع فيها التبرع بالدم
هناك حالات يمنع فيها المختصون التبرع بالدم، وهي:
الشخص الذي أجريت له عملية نقل دم، أو أحد مكوناته، أو أجريت له عملية جراحية لفترة أقلّ من اثني عشر شهراً.
المصاب بأحد الأمراض المعدية، التي ثبت أنها تنتقل عن طريق نقل الدم الملوث بجرثومة المرض، كالإيدز أو الالتهاب الكبدي الفيروسي والزهري والملاريا.
المصاب بأحد الأمراض المزمنة كالسرطان والقلب والصرع والسكري الذي يحتاج إلى الأنسولين في علاجه.
المصاب بأحد أمراض الدم كفقر الدم والثلاسيميا، أو المصاب بأمراض الحساسية كالربو أو الحساسية من الأدوية.
التبرع بالدم في ذكرى عاشوراء
حصلت مبادرة جميلة في أوساط المتديّنين وهي ربط موضوع التبرع بالدم بذكريات سيّد الشهداء الحسين بن علي ، وهي فكرة رائدة جميلة، فقد ضحّى الإمام الحسين وجاد بدمه ونفسه في سبيل الله ومن أجل الأمة، ومن الجميل أن يبادر المؤمنون في ذكرى شهادته أو ولادته إلى التبرع بالدم.
وقد بدأ مثل هذا البرنامج في عاشوراء منذ عدة عقود، وأذكر أنّي دعوت لحملة تبرع بالدم في مسقط بسلطنة عمان سنة 1977م في عاشوراء، واستمرت هذه السنة الحسنة إلى الآن هناك بتوفيق الله تعالى وهمّة المؤمنين الحسينيين الواعين، أتمنّى أن يكون يوم عاشوراء يوماً عالمياً للتبرع بالدم، بحيث يندفع الشيعة في أيّ مكان في العالم إلى التبرع بالدم، كما يندفعون لإحياء ذكرى عاشوراء بشعائر الإحياء المعروفة، فيكون التبرع بالدم باسم أبي عبدالله الحسين من ضمن برامج الإحياء، ويُهدى ثوابه إلى الإمام الحسين .
البعض يحج أو يعتمر ويهدي ثواب حجته وعمرته للنبي وللأئمة ، وإهداء ثواب التبرع بالدم لإنقاذ حياة الناس لا يقلّ ثوابًا عن العمرة والصلاة والعبادات.
ومن الجميل ألّا يفوّت الإنسان على نفسه أمثال هذه الفرص الطيبة، فالحياة تمرّ والسنوات تمضي من أعمارنا، ومن يتبرع بدمه لن تتأثر حياته، يعيش كمن لم يتبرع، مع فارق أنّ المتبرع له أجرٌ وثوابٌ عظيمٌ عند الله سبحانه وتعالى، كما أنه يسهم في إنقاذ حياة أناس آخرين.
علينا أن نتشجّع ونشجّع الآخرين على هذا الأمر، ونستفيد من مناسبات وذكريات أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام وهم أئمة الحياة، وقادة العطاء، والدعاة إلى مكارم الأخلاق، وعلينا أن نربط ذكرياتهم بمثل هذه المبادرات الطيبة الكريمة.