الصداقة .. وظيفتها النفسية والاجتماعية
يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴿﴾ يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴿﴾ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾. [سورة الفرقان، الآيات: 27-29].
يمكننا أن نرصد ثلاث دوائر في علاقات الإنسان الاجتماعية:
1/ دائرة الأرحام والأقارب، وهي دائرة لا يختار الإنسان تشكيلها، بل يجد نفسه ضمنها بحكم انتسابه العائلي، وهو مطالب دينيًا، بالتواصل مع أرحامه، ولا يجوز له قطيعة أحد منهم، حتى وإن اختلف معه في الدين أو المذهب أو الرأي أو المصلحة.
وقد حذّر القرآن من قطيعة الرحم، يقول تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾. [سورة محمد، الآية: 22].
ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾. [سورة الرعد، الآية: 25].
وجاء عن النبي 
: «لاَ تَقْطَعْ رَحِمَكَ وَإِنْ قَطَعَتْكَ»[1] .
وورد عن الإمام علي 
: «صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالتَّسْلِيمِ يَقُولُ اَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الّذي تَساءَلُونَ بهِ والأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾»[2] .
وجاء عن الإمام جعفر الصّادق لَمّا سَألَهُ الجهمُ بنُ حميدٍ: تَكُونُ لِيَ اَلْقَرَابَةُ عَلَى غَيْرِ أَمْرِي، أَلَهُمْ عَلَيَّ حَقٌّ؟ قَالَ : «نَعَمْ، حَقُّ اَلرَّحِمِ لاَ يَقْطَعُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانُوا عَلَى أَمْرِكَ كَانَ لَهُمْ حَقَّانِ، حَقُّ اَلرَّحِمِ، وَحَقُّ اَلْإِسْلاَمِ»[3] .
2/ دائرة المصالح وشؤون الحياة، كالجوار والزمالة في الدراسة والعمل، والارتباطات المصلحية المختلفة، وقد تتاح فرصة الاختيار للإنسان في أطرافها، أو تفرضها الظروف عليه في بعض الأحيان.
وعلى الإنسان أن يجتهد في الاحترام والإحسان إلى كلّ من يرتبط به أو يتعامل معه من الناس.
يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ﴾. [سورة النساء، الآية: 36].
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحْسِنْ صُحْبَةَ مَنْ صَحِبَهُ ... وَمُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَهُ»[4] .
3/ دائرة الأصدقاء، الذين يختارهم الإنسان، ويقترب منهم، على أساس الجاذبية المتبادلة معهم، ووجود مستوى من التوافق النفسي والثقة بهم، ونريد أن نقف عند الحديث في هذه الدائرة.
مفهوم الصداقة
قد يكون للإنسان أصدقاء من أقربائه، أو ممن تربطه بهم علاقات مصلحة من مصالح الحياة، وقد يكونون من خارج هاتين الدائرتين، فليس كلّ قريب، وليس كلّ من تتعامل معه في شأن من الشؤون يكون صديقًا، ما لم يتحقق التجاذب والاعتمادية المتبادلة.
يشير اللغويون إلى أنّ الصداقة مشتقة من الصدق نقيض الكذب، ومعناها صدق المودة والإخاء والنصيحة.
ويرادف مفهوم الصداقة مفهوم الخُلّة (الخُلَّة، بِالضَّمِّ: الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي تخلَّلت الْقَلْبَ فَصَارَتْ خِلالَه أَي فِي بَاطِنِهِ)[5] .
فالخليل في مقام المصاحبة من يكون محلَّ أسرار الإنسان، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ أي مودع أسراره، ويفهم منه كمال الاختصاص والاصطفاء[6] .
وفي التراث الإنساني والديني مساحة واسعة لموضوع الصداقة والأصدقاء، حيث تحدّث عنها فلاسفة اليونان كأرسطو في كتابه «علم الأخلاق إلى نيقوماخوس».
وجاءت حول الموضوع نصوص دينية كثيرة من آيات وأحاديث وروايات، كما تناوله علماء الأخلاق، والمفكرون المسلمون.
واهتم بموضوع الصداقة علماء النفس والاجتماع بمختلف تخصصاتهم في العصر الحديث، وأطلقوا عليه «سيكولوجية العلاقات بين الأشخاص».
وظائف الصداقة
يؤكد علماء النفس أنّ للصداقة والأصدقاء وظائف نفسية واجتماعية مهمة في حياة الإنسان.
الوظيفة الأولى: خفض مشاعر الوحدة، ودعم المشاعر الإيجابية السَّارة، فالشعور بالوحدة يُضعف تقدير الفرد لذاته، وثقته بقدراته على تحمّل الضغوط والظروف المعاكسة.
إنه يشعر بالحاجة إلى الإفصاح عن ذاته، والتعبير عن همومه وآلامه وآماله، وهذا ما يوفره وجود الأصدقاء الذين يطمئنّ إليهم حوله، ومن دون ذلك يعيش حالة الكبت والتوتر النفسي.
الوظيفة الثانية: هي المساندة والدعم الاجتماعي، بتقديم الرأي والمشورة، وإبداء التعاطف، وبذل المساعدة العملية والمادية.
يقول بشّار بن بُرْد:
ولا بُدَّ من شَكْوَى إِلى ذيْ مُروءَةٍ يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أو يَتَوَجَّعُ
الوظيفة الثالثة: بعث الراحة والسرور في النفس، حيث ينشرح قلب الإنسان بأصدقائه، ويأنس بهم، ويرتاح إليهم، وفقدان الصديق يعني فقدان أهم مصدر للمساندة، بأشكالها المختلفة[7] .
وبذلك تكون الصداقة شرطًا من شروط الصحة النفسية، والاستمتاع بحياة لها معنى.
وتؤكد النصوص الدينية على أهمية الصداقة والأصدقاء، ورد عن أمير المؤمنين علي : «اَلصَّدِيقُ أَقْرَبُ اَلْأَقَارِبِ»[8] .
وعنه : «مَنْ لاَ صَدِيقَ لَهُ لاَ ذُخْرَ لَهُ»[9] .
وعن الإمام جعفر الصادق : «عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ اَلصِّدْقِ فَإِنَّهُمْ عُدَّةٌ عِنْدَ اَلرَّخَاءِ، وَجُنَّةٌ عِنْدَ اَلْبَلاَءِ»[10] .
وعنه : «لَقَدْ عَظُمَتْ مَنْزِلَةُ اَلصَّدِيقِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ اَلنَّارِ يَسْتَغِيثُونَ بِهِ وَيَدْعُونَهُ قَبْلَ اَلْقَرِيبِ اَلْحَمِيمِ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُخْبِراً عَنْهُمْ: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴿﴾ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾»[11] .
وحين يتحدّث القرآن الكريم عن أحوال أهل الجنة، فإنه يصف أجواء العلاقة الحميمة بينهم، التي تخلو من كدرٍ، وتصل إلى أعلى درجات السرور والارتياح المتبادل التي يتطلّع إليها أهل الدنيا في أصدقائهم، يقول تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾. [سورة الحجر، الآية: 47].
اختيار الأصدقاء
وأكثر ما ركزت عليه النصوص الدينية أهمية اختيار الصديق الصالح، نظرًا للتأثير المتبادل في الصداقة بين طرفيها، فكريًا ونفسيًا وسلوكيًا واجتماعيًا.
وهذا ما تشير إليه الآية الكريم وهي تحذّر من صديق السوء، يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴿﴾ يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴿﴾ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾. [سورة الفرقان، الآيات: 27-29].
إنّ هناك أصدقاء يندم الإنسان على اقترابه منهم، ويدفع ثمنًا باهظًا لصداقته معهم، في الدنيا والآخرة، وهم أصدقاء السوء، لذلك على الإنسان أن يحسن اختيار أصدقائه.
ورد عن رسول الله : «اَلْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ قَرِينِ اَلسَّوْءِ»[12] .
وعنه : «أَسْعَدُ اَلنَّاسِ مَنْ خَالَطَ كِرَامَ اَلنَّاسِ»[13] .
وورد عن علي : «صُحْبَةُ اَلْأَشْرَارِ تَكْسِبُ اَلشَّرَّ، كَالرِّيحِ إِذَا مَرَّتْ بِالنَّتْنِ حَمَلَتْ نَتْناً»[14] .
وورد عنه : «اَلْمُعِينُ عَلَى اَلطَّاعَةِ خَيْرُ اَلْأَصْحَابِ»[15] .
إنّ على الإنسان أن يتأكد من الاستقامة النفسية والسلوكية لمن يختاره صديقًا، ويحذر ممن لا يكون مستقيم الميول والسلوك.
ومن الأهمية بمكان أن تتأسس الصداقة على أساس من القيم الإنسانية الفاضلة، كالمحبة والتعاون والإخلاص والوفاء والإيثار، وليس على أساس المنفعة والمصالح المادية الزائلة.
ويميّز أرسطو بين ثلاثة أسس للصداقة، وهي: المنفعة واللذة والفضيلة، ويصف صداقة المنفعة بأنّها صداقة عرضية تنقطع بانقطاع الفائدة، أما صداقة اللذة فتنعقد بسهولة وتنحلّ بسهولة، بعد إشباع اللذة أو تَغيّر طبيعتها، وأما صداقة الفضيلة فهي أفضل صداقة، تقوم على تشابه الفضيلة، وهي أكثر دوامًا.
ويضيف أرسطو: في ظلّ الصداقة القائمة على الفضيلة، لا تحدث شكاوى ومعاتبات، فهي صداقة تقوم في المحلّ الأول على فعل الخير، بينما تكثر الشكاوى في الصداقة القائمة على المنفعة، لحرص كلّ طرف على أن يأخذ أكثر مما يعطي[16] .
إنّ على شبابنا وفتياتنا أن يهتموا كثيرًا بموضوع اختيار الصديق، حتى لا يتورطوا بأصدقاء غير صالحين، يربكون مسيرة حياتهم، ويوردونهم المهالك، وكثير ممن تورطوا في الانحرافات الفكرية والسلوكية، ووقعوا في مزالق الإجرام، كان ذلك بسبب أصدقاء السوء.
إنه لا مشكلة في التعرّف على الآخرين، وتكوين علاقة ما معهم، لكن إدخال أيّ شخص في دائرة الأصدقاء، الذين يتبادل الإنسان معهم التجاذب النفسي، والثقة والاطمئنان بهم، هذا ما يحتاج إلى التّدقيق والحذر، ولا يصح الاعتماد على المظاهر الخادعة، كجمال الشكل، أو امتلاك الثروة، أو موقع الوظيفة، أو لباقة الحديث، ما لم يتم التأكد من الاستقامة الفكرية والسلوكية. كما لا يصح أبدًا تشكيل الصداقة عن بعد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دون التأكد من صفات شخصية الطرف الآخر، وقد أصبحت هذه المواقع فخًّا لعلاقات ضارة خطيرة.
أنموذج لصداقة قيمية
وأودّ أن أختم حديثي بقصة صداقة بنيت على أساس المبادئ والقيم الأخلاقية، فأنتجت علاقة فريدة من الإخلاص والوفاء والايثار.
ينقل هذه القصة الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «مع علماء من النجف الأشرف» خلاصتها:
إنّ أحد علماء لبنان وهو الشيخ علي مغنية (توفي 1283هـ) كان قرينه وصديقه في النجف أثناء دراسته في الحوزة العلمية، الشيخ علي بن الشيخ عبدالله أبو مجلِّي القطيفي الفرعي (توفي حدود سنة 1308هـ)، نسبة إلى وادي الفُرع جنوب المدينة المنورة، وفيه قرية أبو ضباع تبعد 195كم عن المدينة المنورة.
وكانا يعيشان ظروفًا اقتصادية صعبة، وكان الشيخ أبو مجلِّي قد أنهى دراسته، وحاز شهادة الاجتهاد، ويريد الرجوع إلى بلده، لكنه ينتظر أن يرسل له أهله نفقات السفر والعودة فتأخرت، فكان مهمومًا مغمومًا، كما كان رفيقه الشيخ علي مغنية أيضًا ينتظر من أهله مبلغًا لأداء ديونه وللعودة إلى وطنه، فوصلت إليه خمسون ليرة ذهبية، فقرر أن يُؤثر بها صديقه أبو مجلِّي، لكنه يخشى ألّا يرضى بأخذها، لأنه يعرف حاجته إليها، فاستخدم الأسلوب التالي حيث قال له: بشراك، لقد جاءك الفرج، ووصل المال من أهلك، وقبضته لك، فتسلّم منه المال ويده ترتعش سرورًا، ووجهه يطفح بشرًا، ووفى ديونه، وقضى حوائجه، وأخذ مستلزمات سفره، وعاد إلى بلاده مرتاحًا، ولمّا وصل علم أنّ أهله لم يبعثوا له بعدُ شيئًا، وأدرك أنّ تلك كانت حيلة من الشيخ مغنية، إيثارًا له.
فكتب له رسالة يشكره على موقفه النبيل، ويعترف له بالفضل الجميل، لكنّ الشيخ مغنية في نفس الوقت، وقبل أن تصل إليه رسالة الشكر، بادر إلى كتابة رسالة تهنئة لصديقه بالوصول إلى وطنه، وفيها يُقسم عليه ألّا يفكر في إعادة المال، فإنه من الله وفي سبيله ذهب.
وهنا آلى الشيخ أبو مجلّي على نفسه، أن يحجّ إلى بيت الله عن صديقه الشيخ مغنية كلّ عام ما دام حيًّا، ووفى بوعده حتى وافته المنية[17] .
والشيخ علي أبو مجلِّي القطيفي الفرعي، هو حفيد الشيخ حسن بن سالم أبو مجلي الخطي الفرعي الذي توفي حوالي 1199هـ، وهو من القطيف ولد ونشأ فيها، في فريق باب الشمال غربي قلعة القطيف، ودرس العلوم الدينية وقد هاجر منها إلى مكة المكرمة، ثم إلى قرية أبو ضباع في وادي الفرع حوالي سنة 1154هـ.
وأعقب ذرية فيها علماء أفاضل، واصلوا إرشاد المؤمنين في تلك المنطقة، وكان من أواخرهم الشيخ علي بن حميد أبو مجلّي الفرعي العلّاسي (توفي 1432هـ).
وقد أصدر الباحث الشيخ محمد علي الحرز من الأحساء، كتابًا وثائقيًّا جميلًا عن هذه الأسرة المباركة بعنوان: (أسرة آل أبي مجلّي الخطي الفرعي العلمية في وادي الفرع بالمدينة المنورة)[18] ترجم فيه لثلاثة عشر عالمًا من علمائها، في 280 صفحة، طبع سنة 2022م.
