صلاة الجماعة من أعظم شعائر الدين
الدين في الأصل حالة اعتقادية في قلب الإنسان، حيث يقرّ ويعتقد بربّه وخالقه، ويؤمن برسالاته، وبالرجوع إليه يوم القيامة، فيلتزم بطاعته وعبادته.وهذان الأمران الاعتقاد والالتزام يدوران في إطار الشخص ذاته، لكن هناك بعداً آخر للدين هو أفقه الاجتماعي، فإن الدين فيه قوانين ومناهج تنظم حياة الناس ومختلف شؤونهم الاجتماعية، إلى جانب ما فيه من عبادات ومناسك يؤديها الإنسان بينه وبين الله سبحانه.
وتتمظهر بعض العبادات والمناسك على شكل حالة جمعية يمارسها الناس مع بعضهم البعض، ومن أبرزها ما نراه في مناسك الحج، حيث لا يحج المسلم بمفرده، وفي أي وقت، وإنما يحج مع الناس وفي الوقت الذي حدده الله سبحانه وتعالى.
ومن مظاهر الحالة الدينية الجمعية ما نشهده في صلاة الجماعة، حيث شرّعها الله سبحانه ورغّب في حضورها، من خلال كثير من الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[1] ، أي صلوا مع المصلين حيث عبرت عن الصلاة بأهم أركانها وهو الركوع.
حكم صلاة الجماعة:
يتّفق جميع المسلمين على أصل تشريع صلاة الجماعة في جميع الصلوات الواجبة، كما يتفقون على عدم صحة صلاة الجمعة والعيدين ـ في حال وجوب صلاة العيدين ـ إلاّ جماعة.
ووقع الخلاف بين الفقهاء في حكم صلاة الجماعة في الفرائض اليومية، والآراء في حكمها ثلاثة:
الأول: واجبة فرض عين:
يذهب هذا الرأي إلى القول بوجوب صلاة الجماعة على كل مسلم قادر على حضورها، ولا يصحّ أن يؤدي المسلم الفريضة اليومية منفردًا ما دام قادرًا على حضور الجماعة، وإلا فإنه يؤثم ويعزّر وتردّ شهادته.
وهو رأي المذهب الحنبلي وبعض الأحناف[2] .
وقد استدل القائلون بهذا الرأي بالآية الكريمة: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾، وكذلك آية صلاة الخوف، حيث يقول تعالى: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ﴾[3] ، بتقرير أن الأمر بها في صلاة الخوف يجعل وجوبها في الحالات العادية أولى.
وما ورد عن الرسول ـ وهو حديث يرويه الفريقان وإن اختلف لفظه ـ أنه قال: «لقد هممت أن آمر فتياني أن يستعدّوا لي بحزم من حطب ثم آمر رجلا يصلي بالناس ثم تحرق بيوتٌ على من فيها»[4] وفي رواية «ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم»[5].
وفي رواية أخرى عنه أنه قال: «لا صلاة لجار المسجد إلا في مسجده»[6] .
الثاني: واجبة فرض كفاية:
حيث يتوجّب إقامة صلاة الجماعة في كل بلد فيه مسلمون، وإن وُجد من البلاد من لا يقيم الجماعة، فعلى الحاكم الشرعي أن يأمرهم حتى يقيموها ولو استلزم ذلك منازلتهم وقتالهم.
وهو رأي الشافعية[7] .
واستدلوا لهذا الرأي بالحديث المروي عن رسول الله أنه قال: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية»[8] .
الثالث: سنّة مؤكّدة:
وهو رأي الجعفرية[9] والمالكية وبعض فقهاء الحنفية[10] .
مكانة صلاة الجماعة:
وقد وردت أحاديث وروايات كثيرة تؤكّد على أهمية صلاة الجماعة، ومنها ما جاء عن الإمام الصادق عن آبائه : عن رسول الله : «مَن مشى إلى مسجد يطلب فيه صلاة الجماعة كان له بكل خطوة يخطوها سبعين ألف حسنة»[11] .
وورد عنه في حديث ذكرته المصادر من الفريقين: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة»[12] أو كما في صحيح مسلم «صلاةٌ مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده»[13] .
و ورد عن الإمام الباقر أنه قال: «من ترك الجماعة رغبة عنها وعن جماعة المسلمين من غير علّة فلا صلاة له»[14] .
وكذلك ورد عن الإمام الصادق : «مَنْ لم يصلِّ جماعة فلا صلاة له بين المسلمين، لأن رسول الله قال: لا صلاة لمن لم يصلَِّ في المسجد مع المسلمين إلا من علة»[15] .
وقد سأل زرارة الإمام الصادق : عن ما يروي الناس أن الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين صلاة، فقال : نعم، صدقوا [16] .
عنه : «إن الله يستحي من عبده إذا صلّى في جماعة ثم سأله حاجته أن ينصرف حتى يقضيها»[17] .
وفي هذا المجال ينقل الشيخ الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين»: روي أن السلف كانوا يعزّون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى، ويعزون أنفسهم سبعا إذا فاتتهم الجماعة[18] .
وقد تحدث الفقيه المعروف السيد محمد كاظم اليزدي رحمة الله في العروة الوثقى عن الترغيب في صلاة الجماعة بشكل تفصيلي ومن عباراته ما يلي: (هي من المستحبات الأكيدة في جميع الفرائض، خصوصاً اليومية منها وخصوصاً في الأدائية، ولا سيّما في الصبح والعشاءين، وخصوصاً لجيران المسجد أومن يسمع النداء، وقد ورد في فضلها وذم تاركها من ضروب التأكيدات ما كاد يلحقها بالواجبات) إلى أن قال رحمة الله (وكلما كان المأمومون أكثر كان الأجر أزيد، ولا يجوز تركها رغبة عنها أو استخفافاً بها... فمقتضى الإيمان عدم الترك من غير عذر سيما مع الاستمرار عليه، فإنه كما ورد لا يمنع الشيطان من شيء من العبادات منعها) [19] .
فوائد صلاة الجماعة:
لصلاة الجماعة فوائد جمّة في حياة المسلمين، منها:
1. تعزيز الحالة الدينية
حينما يحضر المسلمون المسجد ويصلون مع بعضهم البعض تتعزز الحالة الدينية في نفس كل واحد منهم وتتقوّى، فمن طبيعة الإنسان أنه عندما يرى كثرة من الناس تمارس عملاً معيناً يعطيه ذلك دافعاً للقيام بهذا العمل الذي يجد الآخرين يقبلون عليه، فالعمل الجمعي له وقع وقيمة في النفوس، وبما أن صلاة الجماعة هي في الأصل أداء للواجب والتكليف الشرعي ومظهر من مظاهر التديّن، فتعزيزها تعزيز للحالة الدينية الاجتماعية. وهذا هو ما أشار إليه الإمام علي الرضا بقوله: «إنما جعلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلا ظاهرًا مكشوفًا مشهورًا، لأن في إظهاره حجّة على أهل الشرق والغرب»[20] .
2. تأكيد التداخل بين اتصال العبد بالله وصلته بالناس
فالمصلي عندما يأتي للجماعة في المسجد ينوي الصلاة مخلصًا لله سبحانه، ولكنه يؤديها مع جماعة المؤمنين، وهذا يؤكّد ـ وبشكل جليّ ـ أن للدين بعدين، البعد العبادي المتعلّق بالصلة بالله تعالى، والبعد الاجتماعي المتعلّق بعمق العلاقة بين الفرد وبني مجتمعه.
3. توثيق الروابط الاجتماعية
ففي صلاة الجماعة يلتقي المؤمنون ويتعرف بعضهم على بعض، وتكون فرصة للتلاقي اليومي وتبادل الأحاديث والأوضاع الاجتماعية، كما يعيش المصلون حينما يقفون خلف إمام واحد وبجانب بعضهم بعضاً حالة من المساواة وانعدام الطبقية بين مختلف فئاتهم وشرائحهم، وهو أمر يعزز حالة التوادّ والمحبة بين الناس.
4. التربية على النظام
صلاة الجماعة تربي الإنسان على النظام والانضباط الجماعي، فإذا واظب المصلي على الجماعة، فسينضبط في أداء الصلاة في وقتها، وعلى العكس من ذلك الصلاة فرادى، حيث لا يكون هناك أي مُلزم لأدائها في وقتها.
وفي الجماعة تعويد على النظام، حيث يكبر المأمومون بعد الإمام ويؤدون جميع أفعال الصلاة بعده، إلى أن تنتهي الصلاة ويقفون صفوفا منتظمة متراصة.
5. التوجيه والمعرفة الدينية
توفر صلاة الجماعة فرصة جيّدة للتوجيه والمعرفة الدينية، حيث يستفيد المصلون من حضورهم للصلاة باستماع الخطب والمواعظ الدينية وعرض أسئلتهم واستفتاءاتهم الدينية على إمام الجماعة إذا كان من أهل المعرفة والعلم.
العزوف عن صلاة الجماعة:
وقد يتساءل البعض: ما دامت لصلاة الجماعة هذه الفوائد والآثار الطيبة على المجتمع، إضافة إلى ما ورد من النصوص الدينية في الحث عليها وتبيين عظيم ثوابها عند الله تعالى، فلماذا نجد العزوف عند الكثيرين من حضورها، حيث لا يمثل الحضور لصلاة الجماعة إلا نسبة قليلة محدودة من المجتمع؟
لابدّ أن هناك أسباباً لعل من أبرزها ما يلي:
الأول: ضعف الاهتمام الديني:
فمن يهتم بتعاليم الدين لا يترك صلاة الجماعة، إذا كان عارفاً بقيمتها وفضلها عند الله، ومن يرغب في ثواب الله تعالى، لا يتأخر عن صلاة الجماعة، مع ما ورد فيها من الأجر العظيم والثواب الكبير.
لكن يبدو أن الكثيرين يفتقدون رغبة الإقبال على هذه الشعيرة العظيمة، بسبب ضعف الاهتمام الديني في نفوسهم.
الثاني: ضعف التشجيع:
حيث لا نجد في المجتمع حثاً وتشجيعاً كافياً على أداء صلاة الجماعة، فالكتابات حولها قليلة، والخطباء نادراً ما يتعرضون لفضل صلاة الجماعة ولحث الناس على المواظبة عليها.
بل إن بعض الخطباء وطلاب العلوم الدينية قلّ أن يرى الناس حضورهم في صلاة الجماعة في ماعدا تصديهم للإمامة، وكأن طالب العلم لا صلة له بهذه الشعيرة إلا إذا كان إماماً وليس مأموما.
الثالث: الكسل
إن قسماً من الناس يستثقل الذهاب إلى صلاة الجماعة، لأنها تأخذ جزءاً من وقته، وتصرف شيئاً من جهده، فيرى صلاته منفرداً في البيت أسهل وأيسر، مع أن الوقت والجهد اللذين تستلزمهما صلاة الجماعة محدود ضئيل، وهو يصرف أضعاف ذلك الوقت والجهد على سائر شؤون حياته من الكماليات والرفاهيات.
الدعوة لصلاة الجماعة:
يحتاج مجتمعنا إلى حملة مكثفة من التوعية والتوجيه لحث الناس على صلاة الجماعة، بنشر الكتب والمقالات التي تتناول فضلها وأهميتها، وينبغي أن تفتح المنتديات على مواقع الانترنت باب النقاش والبحث حول أسباب العزوف عن صلاة الجماعة في المجتمع، وطرق التشجيع على المواظبة عليها، والعلماء والخطباء عليهم أن يكرروا الدعوة إليها والحث على الاهتمام بهذه الشعيرة العظيمة.
ويمكن الاستفادة من الجوال، بإرسال رسائل قصيرة إلى الأصدقاء والأقرباء، لدعوتهم لصلاة الجماعة.
ولو تشكلت في كل مسجد لجنة للدعاية والإعلام لصلاة الجماعة، وابتكار الوسائل والأساليب المؤثرة في جذب الناس لها، فإنها ستحقق نتائج جيدة.
وعلى كل فرد منا أن يحث ويشجع أقرباءه وأصدقاءه، ولا يسأم من دعوتهم لصلاة الجماعة، فإن الدال على الخير كفاعلة. وذلك مصداق من مصاديق الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف.
جعلنا الله وإياكم من الدعاة إلى طاعته والمبادرين إلى عبادته إنه ولي التوفيق. والحمد لله رب العالمين